الثابت و«المتثابت»…

«العلم المستقر كالجهل المستقر»

«النفري»

كان جدي  رحمه الله  يملك ساعة هي أغلى ما لديه، مثبتة في جيب الصدرية ومعلقة بسلسلة فضية إلى العروة الأعلى فيها، وحين يجدها واقفة أحياناً يلعن الشيطان ويعترف بأنه هو السبب، هو الذي نسي أن (يعبيها) أي يقوم بشد (الزمبرك) ومعه النابض الخاص بتسيير عقارب الوقت إلى أقصاه، ليبدأ نابض الساعة رحلة ارتخائه التي تستمر إلى مساء اليوم التالي، فيقوم بإعادة الشد قبل أن ينام.. لم تكن الساعات التي تعمل على البطارية أو على النبض قادرة أن تهز قيد شعرة ثقته بساعته، وبأنها هي الأفضل دائماً، فهي لم تخطئ الوقت منذ أن أهداه إياها عمه الشيخ قبل أربعين عاماً.

ولم يكن يثق بأي ساعاتي حين تحتاج الساعة إلى صيانة سوى رجل كهل لديه محل معتم في أطراف المدينة.. الأكثر ثباتاً في سياسة جدي تجاه الوقت أنه كان يبقي التوقيت الشتوي على ساعته، وحين تقوم الحكومة ومعها الناس بتغيير التوقيت إلى التوقيت الصيفي كان يقول: لن أغير..ستعودون إلى توقيتي أنتم.. فلماذا أغيّر؟ وطوال فترة التوقيت الصيفي حين لا تكون ساعته في متناول يده، أو حين يريد التأكد من الوقت، فيسألنا:

 كم الساعة؟

 كذا يا جدي

 بتوقيتي أم بتوقيتكم؟

 لا يا جدي بتوقيتنا، بتوقيتك هي كذا (وننقصها ساعة طبعاً)..

وحين يسمع بأن الحكومة قررت تأخير الساعة إلى التوقيت الشتوي، يضحك قائلاً بلغة المنتصر: ألم أقل لكم إنكم ستعودون إلي..؟!

هكذا كان التاريخ يثبت دائماً وجهة نظر جدي في موضوع هام وحساس كالوقت.. وكنا نبتسم من عناده وثقته وفرحته الطفولية بالنصر كل مرة..

***

ما حصل عندنا أكبر من موضوع التوقيت، وإصرار المرحوم جدي على أن انتظاره هو الصحيح بدليل عودة الآخرين إليه، ما حصل أن البعض ظن ويظن أن الحقيقة سجينة أدمغتهم وحدهم، والآخرون لا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد، وهؤلاء الآخرون عندهم نوعان:

 إما مساكين مخدوعون ومضحوك عليهم، وبالتالي ضحايا لجهلهم وقلة درايتهم وعدم اعتمادهم على قرائح الجماعة المنزهة عن الضلال في تفسير كل ظاهرة حتى لو كانت مذنب هالي، وهؤلاء وإن كانوا يستحقون الشفقة الممزوجة بالشماتة عندهم إلا أنهم يستحقون أيضاً مصائرهم المفجعة ف (يداك أوكتا وفوك نفخ)!

أو خبثاء متآمرون يتقاضون بدل أتعابهم في الدس والتآمر والتخريب والاعتراض على آراء واستنتاجات شيخ الطريقة الذي هو بكل شيء عليم، وهؤلاء يجب تصفيتهم معنوياً ومادياً وجسدياً بلا رحمة، لأنهم طابور خامس للأعداء المتربصين بالجماعة وتالياً بالوطن والشعب.

 أصحاب الثبات واليقين يرددون عادة عبارة: ألم نقل لكم؟ أو: لقد قلنا هذا الكلام منذ البداية وها هي ذي الوقائع تثبت وجهة نظرنا.. ويكون ما قالوه طبعاً لا يتعدى عموميات تصلح لكل زمان ومكان ويتفق عليها الجميع..كأن يقول مثلاً لا فض فوه: إن الوطن والشعب هما أقدس وأهم وأبقى من أي فكرة أو حزب أو قبيلة، والدفاع عنهما وحمايتهما واجب الجميع..

أو حين يقول قائل منهم إن جماعتنا مثل زرقاء اليمامة ترى أبعد من الناس العاديين البلهاء، ومنهم العمال والفلاحون والمثقفون الثوريون، وهؤلاء  المثقفين الثوريين  تحديداً ليسوا في الحقيقة سوى برجوازيين صغار مستعدين فطرياً للسقوط في مهاوي الرذيلة والخيانة، فيجب الحذر منهم دائماً، وقد كان المرحوم غوبلز، وزير دعاية هتلر، على حق عندما كان يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة مثقف.  لكن المشكلة  يضيف شيخ الطريقة  أن لا أحد ينصت إلينا، المشكلة أننا نردد ما نحفظه بيننا وبين أنفسنا، فيما الأحداث والتاريخ والوقت يمضي غير مبالٍ بنا وبما نقوله.. المشكلة أننا تعفّنّا في أقبية أفكارنا ولم يسأل عنا أحد، أننا صرنا خارج التاريخ.

تبدو كلمة الثبات مرذولة حقاً لأنها مقدمة للاستنقاع.. والوقت عقرب إن لم تلحقه لدغك!

العدد 1140 - 22/01/2025