حلمٌ بحجم حفرة !
لم يدعني ذاك المنظر أكمل استمتاعي بقراءة كتاب لأحد كتاب القصة العالميين، ولا باستساغة طعم الشاي الذي أعدته زوجتي وقد عادت بها الذاكرة إلى لقاءات الصيف الجميلة في قريتها أيام تعارفنا الأول.
كنت قد قلتُ في سرّي:
(الشاي على (الفرندة) الجنوبية، مع بعض نسمات الصباح وضحكة من هنا أو من هناك، مما يفتح النفس لاسيما أن المدينة لم تستفق بعد).
قالت زوجتي وقد أقلقها وجود الكتاب بجانبي:
– قبل شروق الشمس، تهرب إلى الورق؟! يارجل أنا موجودة معك وبإمكانك أن تنسج قصة من الواقع بدل أن تقرأها في الكتاب.
فكرت في كلماتٍ قد تخرجني من الورطة التي وضعت نفسي فيها، عندما قلت لها إنني أشتهي معها كأساً من الشاي. لكن تلك الكلمات أبت أن تطرق ذاكرتي، فوقفت أنظر إلى البعيد علّ شيئاً ما يتراءى لي ويجذب نظرها. لكن الأفق بدا ضبابياً وقاتماً.
عدت إلى كأس الشاي، أخذت رشفة أو اثنتين، وإذ بها تشير إليّ كي أنظر باتجاه الطريق العام:
– هاهم قد أتوا؟!
– أعوذ بالله!. منذ الصباح الباكر!. قلتها بمرارة على الرغم من حلاوة الشاي.
أوقفوا شاحنتهم وترجل منها ثلاثة صعد أحدهم إلى ما يسمى (الكبين) الخلفي، أما الآخران فبقيا على الطريق ينظران يميناً وشمالاً.
قالت زوجتي وهي تمسك إبريق الشاي وتستعد للمغادرة:
– كما يقولون: (جاءت الحزينة لتفرح فلم تجد للفرح مطرح). قُمْ وادخل معي إلى الصالون وأرِح نفسك من هذا المنظر المقيت.
قلت وقد غلبني الفضول:
– بل سأبقى كي أرى ما ستؤول إليه الأمور.. لست في عجلة من أمري، فالنهار مازال في أوله ولست ذاهباً إلى عملي.
– (تصطفل)!..
قالتها وهي ترشقني بنظرة تجاهلتها كعادتي. غادرتِ (البرندة) بينما عدتُ إلى كتابي أقلب صفحاته على وقع صياحهم القوي.
أسقطوه من السيارة بعد جهدٍ مضنٍ. فالرجل الذي صعد إلى الكبين كان نحيفاً بشكل يدعو للضحك والاستغراب، لكنه كان بديناً إذا ما قيس برفيقيه.
ربطه الرجل النحيف بحبلٍ وقام رفيقاه بمساعدته في سحبه. استقر على الأرض. يبدو أنه قوي جداً..طويل، أسمر اللون. تفوح منه رائحة غريبة عن الروائح التي نألفها في مدينة تكثر فيها الروائح !!.. بدؤوا بجرّه..انقطع الحبل. تذكرت فيلماً كنت قد رأيته منذ زمنٍ عن بطلٍ انقطع به الحبل الذي أعدّوه لإعدامه.
لم أتنبه لقدوم زوجتي ومشاركتها لي في مراقبة ما يجري. عادوا وربطوه من جديد. قالت زوجتي:
– لن يتمكنوا من جرّه.. ما بهم؟!.. كأنهم لا يأكلون؟!
قلت لها وأنا أقلب صفحات الكتاب عشوائياً:
– ربما !.. من يذهب وير الازدحام أمام محلات الفلافل يعتقد أنه تم اكتشاف العديد من الفوائد الطبية والفيتامينات والمقويات لهذا الصنف العجيب من الطعام.. الفلافل هي الوحيدة التي بقيت للمواطن (المعتّر) القدرة على شرائها.
ضحكت زوجتي بسخرية وعلقت على كلامي بالقول:
– ربما أصبح الأطباء الاقتصاديون ينصحون بالفلافل بدلاً من الأدوية!
قلت وكأنني أقف بذاكرتي في الرتل أمام أحد المحلات:
– بمن؟!
قالت وقد تحول وجهها إلى مايشبه قرص الفلافل:
– بالفلافل !.. وهل نتحدث عن انقراض الديناصورات؟!
وهنا خطرت لي فكرة عجيبة. اقتربت منها وحدقت في عينيها وقلت:
– كم أتمنى أن تنقرض ديناصورات الفساد التي طال عمرها وتراكمت ثرواتها وبقيت عصيّة على القانون ردحاً من الزمن!. وأضفت:
– سأشتري هذا الصباح العديد من سندويتشات الفلافل.
قالت وقد لوت شفتيها:
– فلافل..؟! والله لقد مللناها!..
قلت وقد تحول الأفق إلى حقلٍ من الخضار:
– نعم.. نعم.. فلافل.
قلت وأنا أتابعهم وهم يجّرونه على طول الطريق:
– سنستمتع بطعم البندورة والبقدونس والخيار من السندويش ما دامت أسعارها كأسعار الدولار: (يوم فوق ويوم فوق).
قالت وهي تهم بمغادرة (الفرندة):
– لا تحلم.. لم تعد سندويشة الفلافل تحتوي على ماذكرت.. فيها فقط القليل من الملفوف والمخلل.
اختلط صوت ضحكها مع أصوات الحصى وهم يسحبونه.. لكن الحبل عاد وانقطع ثانية.
وقالت: كنت أظن أن حبالهم متينة أكثر من ذلك! لم أتوقعها بالية كالخطط الاقتصادية الإسعافية!
عاد أحدهم وربطه، وتابعوا جرّه فوق الحصى.. كان صوت الحصى حاداً.. وكنت في شوقٍ إلى التبولة.
المسافة قريبة إلى تلك الحفرة التي أعدوها على ما يبدو من أجله. بعض الرجال تجمعوا حولها. كانوا بانتظار وصوله!..
قال أحدهم: الحمد لله!..أخيراً وصل!..
سائق الرافعة الصغيرة رفعه وثبته في المكان المخصص له.
قال الشخص الذي يقف وحيداً وهو يضع يده في جيبه:
– ثبتوه بالمزيد من الحجارة والأتربة والاسمنت..يجب ألاّ يتحرك.
قالت زوجتي:
– يجب عليك أن تبحث عن مصدر آخر نحصل منه على البندورة والبقدونس بدلاً من الفلافل!. فالكهرباء التي اقتحمت حارتنا الآن لابدّ أن تلتهم المزيد من دخلنا الذي نتحايل عليه كي يصمد حتى منتصف الشهر!
حملت كتابي ونهضتُ.
قالت زوجتي:
– إلى أين؟!
قلت لها بعد أن تنهدتُ بعمقٍ:
– إلى حفرة أقف فيها شامخاً دون خوف من أحد..!!