الانعكاسات الاجتماعية للأزمة السورية

بعد أن سلطنا الضوء على المدخل الاقتصادي والاجتماعي للأزمة، وعملنا على محاوَلة حصر الانعكاسات الاقتصادية قدر المستطاع سوف نقوم بدراسة الانعكاسات الاجتماعية والتي تعدّ، إن لم تكن مساوية، للآثار الاقتصادية فهي أهم لأنها تخص الإنسان غاية التنمية وأداتها، وهنا لابدلنا من التذكير كيف أن ألمانيا واليابان خرجتا من الحرب العالمية مدمرتين محطمتين، واعتمدتا على الإعانات وفقدتا ملايين الشباب، استطاعتا أن تعودا أقوى وأن تكونا قطبين اقتصاديين وعلميين على مستوى العالم من خلال الثقافة المتراكمة وحيوية منظومة التعليم، التي أنتجت نوعية من الناس الانضباطيين المنفتحين المبدعين، هنا سنحاول الوصول لتأثيرات هذه الأزمة على الإنسان السوري من مختلف النواحي الاجتماعية النفسية الثقافية، وكانت انعكاسات هذه الأزمة والسياسات التي مورست خلالها مخيفة وكثيفة زادت من بلاء ما أتحفنا به الدردري وحكومته التي عاكست الواقع وهشمت البنى، ونجمت عنها زيادة الفقر والبطالة والهجرة الداخلية، لتأتي هذه الأزمة وتزيد البلاء.

فقذفت بأغلبية الشعب السوري تحت خط الفقر ونصفهم بالمدقع، وكيف لا، وقد أصبح نصف الشعب السوري خارج بيته ومأواه، الذي تهدم أو تركه لغياب الأمن والأمان، وقد كان متوسط المبلغ اللازم لمعيشة الأسرة المؤلفة من 5 أشخاص قبل الأزمة نحو 30 ألف ليرة سورية، وأصبح حسب المصدر نفسه نحو 90 ألفاً، مع اللعب بالدولار ليصل إلى أبواب الثلاثمئة، وليستقر عند الــ170 ل.س، مع عدم وجود رقابة ومتابعة للأسعار من جهة، وانعدام الضمير والأخلاق والحس الوطني من جهة أخرى، ورفع الرسوم والضرائب والعمل، وكأن الأزمة ببلد آخر والمواطن في قمة الرفاهية وما شهده خاصة قطاع السكن من تضخم، والإيجارات للنازحين مع عدم تدخل الحكومة ليصبح المنزل المأجور حلماً للنازحين وكذلك للسكان المحليين.

أثرت الأزمة أيضاً على بطالة القوى البشرية، فقد كانت البطالة قبل الأزمة تتراوح بين 8 و10 و11% حسب الظرف وحسب المعيار الذي يوصفون من خلاله العاطل عن العمل وفق الأرقام المضللة لحكومة الدردري مع العلم أن تقارير كانت تقدرها بنحو 20%، كن الأزمة قد أفقدت اكثر من 1.5 مليون عامل بسبب دمار مكان العمل أو سرقته أو نقله خارج البلد، وأكيد الرقم المعبر الصحيح صعب المنال، وقد شهدت سورية نزيف كبير للكفاءات وللفنيين زيادة عما كانت تعاني منه، إضافة لما قتل من خيرة الكفاءات والتقنيين، ونجم عن هذه الأزمة السوداء آلاف المعاقين من الشباب والأطفال باختلاف أنواعها شلل، بتر يد أو يدين أو رجلين، وكذلك إعاقات عقلية وجسدية وأمراض جديدة وخاصة النفسية وما يحتاجه هؤلاء لرعاية دقيقة ومبرمجة وعلاجات مستمرة.

وأدت هذه الأزمة للتفكك الأسري نتيجة نزوح نحو 10 ملايين سوري بين نزوح خارجي أو داخلي، فقد قدر عدد السوريين النازحين للخارج بـ3 ملايين نازح، عدا المغادرين من أصحاب الثروات الذين لم تسجلهم المنظمة الدولية في الدول الأوربية وأمريكا، وما يعانيه هؤلاء من صعوبة الحياة والذل والإهانة والأجواء الجديدة ومحاولة النيل من كبريائهم وعزيمتهم، إذ دلت آخر الإحصاءات على وجود 3 ملايين نازح مسجل، لبنان مليون و100 ألف، تركيا 800 ألف، الأردن 600 ألف العراق، 200 ألف، مصر نحو 130 ألف، الجزائر نحو 25 ألف، عدا غير المسجلين والظروف الصعبة التي يعانون منها من تقييد للحريات وسكن غير لائق وغير صحي، وتغيير كامل بشروط وظروف الحياة، وحياة متوترة ومضغوطة وذليلة مستمرة، وما تكرسه من ضغوطات نفسية وكآبة، وما سينجم عن هذه التغيرات مستقبلاً على تكوّن شخصياتهم والحياة التي ينشأ عليها أولادهم، علماً أن نسبة الصغار كبيرة جداً، وأي تنشئة يحاول البعض أن يحيطونهم بها.

وتأثرت كذلك الخدمات الصحية، إذ كان هناك ضغط كبير على الخدمات الصحية، نتيجة الإصابات الناجمة عن الصراع من جهة، ونتيجة تضاعف أعداد سكان المدن الآمنة، ونتيجة الحصار المفروض والظروف الاقتصادية الصعبة، مما خلق هناك نقصاً ببعض المواد، وكذلك أدى ارتفاع أسعار الأدوية والعلاج لصعوبات في تحمل تكاليف العلاج، وكذلك عدم إمكانية تنفيذ الكثير من العلاجات واللقاحات في الكثير من المناطق والمدن مما أدى إلى تفشي أمراض، وقد تعرض هذا القطاع لتدمير ممنهج ومقصود من خلال تدمير مئات المراكز الصحية والمشافي التي كلفت المليارات مثل مشفى الكندي للسرطان بحلب وغيرها.

وأصيب قطاع التعليم الذي كان يعاني من ثغرات ببعض الفوضى وعدم الاستقرار لدى الطلاب واكتظاظ الجامعات بالمدن الآمنة، والضغط الكبير على الطلبة وعلى الكوادر، وخروج الكثير من المنشآت نتيجة الدمار الذي طال أكثر من 3000 مدرسة، والتسرب الكبير لآلاف الطلبة خارج سورية أو داخلها، وفوضى بالعملية التدريسية، إضافة إلى فرض مناهج جديدة، ومغادرة للسوريين النازحين بمراكز الإيواء، ورغم كل ما حصل لم تغير الوزارة من خطتها السابقة القائمة على رفع رسوم وتكاليف التعليم، ورفع المعدلات لتنشيط الجامعات الخاصة على حساب العامة، وكذلك كانت قوانين نقل الطلاب الاضطرارية ظالمة بحيث لم يستطيعوا الوصول لصيغة تحدد عدد المواد التي يجب تحميلها للطالب في حال النقل، وإنما حصلت حالات تحميل الطالب 14 مادة وأكثر غير متشابهة، مما جعل معاناة الطلاب تزداد، وإمكانية تخرجهم تصبح مستحيلة رغم أنهم لم يكونوا لمسببين بالأزمة، وليس لهم إرادة بها، وإن طلاب المدن غير الآمنة يقدمون وكأنهم بجامعاتهم، وأكيد نحن مع الظروف المريحة لجميع الطلاب لأنهم أبناء بلد واحد، ويجب أن تكون الظروف مسهلة وتخفف عنهم آثار الأزمة، وللأسف لم ولن يرتقي أداء وأسلوب الكوادر بما يتماشى مع الظروف، وبما يساهم بالعلاج النفسي وزيادة التواصل، وهذا الموضوع بحاجة لسياسة تعليمية ممنهجة ومدروسة وهامة، كون هذا القطاع من القطاعات التي يعول عليها للتجاوز التدريجي للآثار النفسية للأزمة، وتكوين موارد بشرية واجتماعية بناءة، وكون هذه المؤسسة وأدائها غير المتوازن وغير الفعال كان من أسباب تخريج حاملي شهادات بيدين عن الثقافة والجهل الذي وجدناه أكبر دليل.

وبالنسبة للرياضة المبتلية أصلاً، فقد ساءت الحركة الرياضية بدرجة كبيرة جداً لتكاد تختفي، إلا من باب تأدية واجب واستمرارية ضرورية، نتيجة الظروف وطرقات النقل والحالة النفسية، ونتيجة تغيير القبعات والاعتماد على شخصيات كثيرة ملّها الشعب من كثرة فشلها وفسادها.

وكذلك للأسف لم تكن الظروف تسمح لنشاط ثقافي فعال، ولكن القادمات تتطلب ذلك عن طريق زج شخصيات فعالة ونخب عضوية بناءة لا كرتونية من أجل التنشئة السليمة والإحاطة بما تسببت به الأزمة وثقافاتها الجديدة، كثقافة العنف والشتم والقتل وقطع الرؤوس والطائفية والمذهبية والإقليمية من انعكاسات على الجيل الجديد الذي هو أساس المستقبل، وبالتالي يجب أن يكون هناك برامج موازية لإعادة تفريغ وملء عقولهم، وتكريس الصفات الإنسانية والمحبة والوطنية والسلام، بدلاً من هكذا ثقافات، وكذلك على النخب الحقيقية العمل على نشر ثقافة الحوار البناء المؤدية إلى نبذ ما أدخل من أمراض تدميرية ظهر جزء كبير منها، وما زال البعض يضمر أمثاله، ولا بد أن يكون هناك نشاطات فعالة مبنية على علم ومعرفة لنشر ثقافات وطنية غير تفتيتية لكسر كل الحواجز التي وضعت بين أبناء البلد الواحد الذين عاشوا تاريخياً يداً بيد.

إضافة للتهديم المنظم للكثير من الأوابد الأثرية التاريخية، وسرقة آلاف القطع الأثرية وتشويه معالمها وتهديم الأماكن الدينية التاريخية، وما سينجم عنه من انعكاسات على السياحة وعلى الاقتصاد بشكل عام وكذلك محاولة لمحو العمق التاريخي وتعويم الجذر السوري العميق.

وزادت حالات التشتت العائلي والتشرد وعمالة الأطفال التي ازدادت بشكل كبير رغم ما تمثله من انتهاك لحقوق الطفولة والإنسان، وكذلك ظاهرة تعلم جزء منهم حمل السلاح والمشاركة بالقتل والقتال، وازدياد أعداد المتسولين بشكل غير طبيعي، الزواج غير الشرعي أو غير المسجل في مناطق لا توجد بها محاكم نظامية، وكذلك عدم تسجيل الأولاد في تلك المناطق وانتشار حالات زواج القصّر في مخيمات النزوح والبلدان التي لجأ إليها النازحون، وما تشكله من مظاهر انتهازية تستغل الظروف ولا تراعي الإنسانية، وانتشار الفوضى التي شجعت السرقة والنهب من قبل فئات تافهة مارقة على مرأى الجميع بلا خوف، ولا وجل، ولا ضمير، ولا محاسبة، ولا جزاء، وما سيشكله ذلك من كره وحقد.

وبالنسبة للمرأة فقد كانت معاناتها كبيرة من خلال العقول المتحجرة التي أساءت لها ولما وصلت له من تطور وتحرر واستقلال في بلدنا، ومحاولة العودة بها للعصر الحجري، وممارسة أسوأ الممارسات كالسبي والاغتصاب والزواج الإجباري، إضافة للضغوطات التي عانت منها، أم فقدت ابنها أو أبناءها أو أم لمعاق أو كونها ربّة أسرة في الشتات، وفي القادمات ستزداد معاناة الكثيرات منهن نتيجة الترمل وتحمل مسؤولية فقدان الزوج المعيل وتحملها مسؤولية تربية الأسرة، وخاصة بعد أعداد الموت الفائضة ومانجم عنها من حالات ترمل وضرورة إيجاد فرص عمل للبعض بعد استقرار الأوضاع لتربية الأسرة،

وبالتالي ستولد الأزمة معاناة كبيرة بسبب فقدان المعيل أو الفقر والبطالة، وكذلك الفوضى الأخلاقية والأمراض النفسية من اكتئاب وكآبة وتوتر، وأمراض اجتماعية من فساد وتسول وعمالة أطفال وصراعات بنيوية من خلال نشوء طبقة ذات أموال سوداء، من تجار الأزمات ومستغلي الفوضى وصعوبة الانضباط والاستقرار مع تفشي ظاهرة السلاح بين يدي هؤلاء، ومحافظة الفاسدين على أموالهم وزيادتها من خلال استمرار فسادهم وزيادة وتيرته، وبالتالي خلخلة اجتماعية وتناقضات يجب أن تحل وتضبط حتى لا نستمر بمتوالية الصراع والانفلات الأمني والأخلاقي، وخاصة مع تلمسنا أزمة أخلاق مستفحلة، ومع وجود محاولات كبيرة لفرض نماذج تدّعي الدفاع عن الديانات وأنها معينة لهذه الوظيفة، علماً أنها أبعد ما تكون عن جوهر الدين البناء الخلاق، وبالتالي كذلك سيكون هناك صراع ضمن صفوف رجال الدين بين من يدعي ومن يحاول الاصلاح للوصول للدين الحقيقي ودوره المهم في الضبط الاجتماعي والبناء.

وأخيراً مهما كانت الخسائر الاقتصادية والمالية كبيرة فإن الخسائر الاجتماعية التي أصابت الإنسان  أكبر وأهم، وأفقدتنا كفاءات وطاقات، وهشمت بنية الإنسان السوري، وهو الأساس الأول لإعادة البناء..

العدد 1140 - 22/01/2025