التضليل ما بين الضرر والضرورة

الهدف الرئيسي لأي دولة هو حماية حدودها ومواطنيها ضد أي أخطار قادمة، سواء كانت بنيوية داخلية أو عدائية خارجية، إضافة إلى الجهود التنموية التي تبذل لرفع مستوى النمو والإنماء والتنمية في مختلف المجالات، ولذلك لابد من الحنكة الإدارية والسياسية في إدارة الدفة، وتختلف هذه الحنكة حسب موقع البلد وظروفه وحسب المستوى التنموي الذي وصل إليه درجة العدائية لهذا البلد من البلدان الآخرى ،فأكيد دول العالم الثالث تختلف في إدارتها لأمورها عن دول العالم الأول، وحتى بين دول العالم الأول أو الصناعي هناك اختلافات في أسلوب الادارة وطرقها حسب وضع كل دولة ، ورغم أن أغلب الدول تتكلم عن الشفافية والعلنية في السلوك بمختلف مجالاته الاقتصادي الثقافي الاجتماعي السياسي إلا أنه نادراً ما تتوقف هذه الدول عن تضليل الآخرين بسياسات معلنة لتمرير سياسات أخرى أو بالبوح بأرقام لمختلف الأمور غطاءً لأرقام واقعية قد يضر البوح بها البلد أو يعطي العدو واقع البلد من أجل إيجاد الخطط لسلبه واستلابه وعرقلة مسيرته ،وهنا سوف نتكلم عن الفرق بين التضليل المباح البناء والتضليل الضار المبرمج الهدام الذي تختفي وراءه ويلات وانعكاسات قاتلة للبنيان والإنسان، فقد تكون دولة لها خاصية معينة مضطرة للتمويه عن الحقيقة الواقعية لوضعها الاقتصادي الاجتماعي، لمخزونها من العملات الصعبة، لنسبة البطالة أو الفقر، لمخزونها من الأسلحة لحجم النمو الاقتصادي لديها، لمخزونها من المحاصيل الاستراتيجية كالقمح، وذلك استباقاً لغزو متوقع أو لمواجهة مخططات خارجية أو داخلية، وذلك لتضليل الأعداء والمتربصين.

وقد يكون ذلك في وقت السلم أو الأزمات، وهذا ما يبرر لما تقوم به سورية في الوقت الحالي عندما كشر الغريب ومن ادعى أنه قريب من أجل قتلها وتدمير جسدها، وكانت الحرب الاقتصادية هي الأخطر والأكثر تكريساً لها ،فهنا إخفاء الواقع الحقيقي وإصدار أرقام همها الحفاظ على الثقة وعدم الإحباط وتضليل العدو هدف واقعي وطني بناء، وكذلك في مجال الضحايا والفقر والبطالة، فهنا الظروف استثنائية وعلى إمكانية تجاوزها بعقلانية وروية يتوقف مستقبل البلد بأكمله، بمعزل عن الأمور الأخرى، فهنا الموضوع بقاء جسد البلد واستمراريته، ولا يمكن لأي باحث أو خبير أو محلل أن يسأل عن الرقم الحقيقي الواقعي الذي يجب أن يكون محصوراً بدائرة ضيقة تدير الأزمة وتبني سياساتها الحالية والمستقبلية على أساسها من ناحية الإنفاق وتوقيته ومكان تأمين المواد ،ففي الظروف الاستثنائية القرارات استثنائية بما يلائم متطلبات الواقع ، وفي مثل هذه الظروف لا يفاجأ المتابع بتضليل من الطرف الآخر للمؤشرات نفسها من خلال تكبير الأرقام أو تصغيرها لإظهار البلد فاشلاً وتصويره في منحنى التدمير، ومن أجل تيئيس المواطنين وتفريغ معنوياتهم. وكم من مؤسسة إعلامية مضللة كان همها بث أرقام مضخمة عن الفقر والبطالة وعن القتل والدمار والاحتياجات بمختلف أشكالها، لإظهار سورية بلداً فاشلاً وكذلك التضليل بأرقام للمخازين والاحتياطات، وكل ذلك لتدمير البلد بنيوياً وبشرياً، وآخر من توقعنا ووقع في ما توقعناه كان الدردري في اجتماع دول الإسكوا حول سورية، عندما قدر عدد البيوت المدمرة بمليونيين وحجم الأموال اللازمة لإعادة البناء 148 مليار دولار، وذلك من أجل التبرير لقوى خارجية ولشخصيات كانت الأس لتدمير البلد للعودة من نافذة إعادة الإعمار، ولإيقاع سورية في فخ المديونية للبنك الدولي والمخاطر الناجمة عنه، هذا البنك الذي طالما عمل النائب الاقتصادي الأسبق وأتباعه لفرض سياساته على سورية وما نجم عنها من قتل للبنى السورية وتهيئة البيئة الهشة لما حيك لنامن تدمير واستنزاف لخيراتنا ولدمائنا، وهنا لا يخفى على أحد كيف كان للتضليل الرقمي الذي كان يعمل به هذا النائب من دور كبير في استمرار السير بنهجه الهادف إلى احتكار الاقتصاد لأشخاص معينين، وقتل القطاع العام وتحرير التجارة الخارجية ورفع الرسوم والضرائب وإفقار وإذلال الشعب، وكانت فحوى خطاباته تقوم على تضخيم حجم النمو بأرقام خيالية غير واقعية رغم أن أغلبها نمو فقاعي لا يقوم على القطاعات الانتاجية، وكذلك تخفيض أرقام البطالة والفقر ليضلل عيون وأصحاب القرار وعقولههم عن نتائج سياساته المدمرة، وكان الأمر الأكثر تعرضاً للتضليل بالرقم والمضمون هو مصطلح الدعم الذي كان العدو الأكبر للنائب الأسبق ومن لحقوه، لأن أساس التوازن الاجتماعي والاقتصادي الذي أعلن عن حجمه بعشرات الأرقام المتناقضة وما زالوا إلى الآن يعلنون، ووضعت الخطط والبرامج التجميلية لما سينجم عن رفعه وكيفية إيصاله إلى من يستحقه من دون وجود أرقام حقيقية للبنى الاجتماعية، ومن دون الخوض في الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لما سيقومون به، ووقعت الكارثة بسبب هذا المضلل المستمر بضلاله وتضليله، ووصلنا إلى التهلكة وما زال مستمراً بفكره ونهجه غير آبه بالدماء التي سالت بفضل أفكاره ومن يقف وراءه، ولا بالدمار الذي لم يترك بشراً ولا حجراً، إن لم يوضع حد لها ولم تفضح النوايا والأهداف. ويجب التأكيد أن التضليل أحياناً يكون بمصطلحات وبعدم الاستناد إلى أرقام، كما ابتدع مسؤول آخر من فتره تصريحاً فحواه أنهم لم يرفعوا الدعم عن السلع وإنما كان هناك عقلنة، وما تحويه هذه العبارة من أبعاد وتضليل، للأسف إلى الآن لم يصل بعض المسؤولين إلى شيء من الواقعية لشعب عجز الصبر عما صبره، فلابد من عبارات غير تضليلية وإنما استغبائية، فكثير من التصريحات تكون بناءة إن كانت حقيقية، فمثلاً  كان يمكن أن يقول إن البلد تمر في ظروف استثنائية ولهذا فالقرارات تناسب واقع البلد، وعندما تستقر الأمور سيكون هناك إعادة لكل القرارات بما يناسب الوطن والمواطن وبما يعيد القوة لسورية والثقة بين المواطن والحكومة، بدلاً من اختراع مصطلحات وتصريحات جديدة تضليلية تؤلف عنها كتب وجرائد.

وأخيراً الواقعية أساس للانطلاق الصحيح، التضليل البناء الذي يحمي الوطن وأمنه والمواطن واجب وإيجابي، إنما يجب عدم تمرير مشاريع وبرامج تدميرية وعدم السماح للبعض أن يبوحوا بأرقام وأفكار خبيثة استعمارية من هذه الزاوية نفسها.

العدد 1140 - 22/01/2025