الجماعات المتخيلة
كانت روح القومية المناهضة للكولونياليّة دائماً معادية للعنصريّة وتحاول أن تستند إلى أفضل ما في التراث الغربي التنويري كي تحرجه به. وهي تصدّق فعلاً، أو تتظاهر بتصديق الديموقراطية وحقوق الإنسان في الغرب وتحاول أن تشي بالفجوة بينها وبين الممارسة الغربية في المستعمرات وهذا ما دفع الكاتب (أندرسن) إلى استخدام دستور جمهورية كاتاغالوغان 1902م لتوضيح المفارقة، هذا الدستور (الذي يفطر القلوب) في توقه إلى المساواة في مقابل فكر المستعمر وثقافته، والمقصود هو جمهورية ماكاريوساكاي قصيرة الأجل، الذي نصّ من بين أشياء أخرى على أنّه (لن يرفع أيّ تاغالوغي، ولد في هذا الأرخبيل التاغالوغي، أيّ شخص فوق البقية بسبب عرقه أو لون بشرته، فالأشقر والأسمر والغني والفقير والمتعلّم والجاهل متساوون تماماً جميعهم، ويجب أن يكونوا قلباً واحداً، وقد تكون هناك فروق في التعليم أو الثروة، أو المظهر، غير أنه ما من فروق قطّ في الطبيعة الجوهرية والقدرة على العمل من أجل قضيّة ما). عُرفَ الكتاب في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته في مرحلة تصاعد النقاش في شأن القوميّات وسط أوربا وشرقها، و دافع كتابته كما يوضّح الكاتب، كان نشوب حروب أخرى بين دول اشتراكية في الهند الصينية .هكذا عاد التاريخ القريب بانحلال الإتحاد السوفياتي والمنظومة الأوربية الشرقية ليؤكد منطق (الجماعات المتخيّلة) على نحو يفوق التوقّع. يقول الكاتب : بأنّ الجماعات المتخيّلة ليست جماعات خيالية، بل حقيقية وواقعية، لا لأنّ فعلها وتأثيرها حقيقي وواقعي وحسب، بل لأنّ تخيّلها يجري بأدوات واقعية، قائمة والناس بهذه الحالة لا يتخيّلون شيئاً من العدم وبوساطته، بل يحتاج تخيّل هذه الجماعة إلى أدوات ناشئة تاريخيّة، كما يتشكّل المتخيّل بهذه الأدوات من عناصر قائمة، ويثبت (أندرسن) أنّ هذه الأدوات قد تكون هي التّمايز اللّغوي وقد تكون أموراً أخرى أيّ أنّ العناصر والأدوات المكوّنة للجماعة المتخيّلة ولعمليّة تخيّلها تختلف.لكن اللغة المطبوعة كانت شرطاً ضروريّاً، ومنذ أن تمّ تخيّلها، أي صنعها، بواسطة اللغة المطبوعة أوّلاً، أي من خلال اللقاء التاريخي بين اكتشاف المطابع والرأسمالية التي تستثمر في طباعة الكتب والصّحف وتسويقها، ومنذ نهوض اللغات المحليّة المطبوعة بدلاً من اللاتينيّة المقدسة، نشأت اللغة القومية، ومنذ نشأت الوحدات الجمهورية الأمريكية التي تعتمد على الحدود الإدارية الكولونياليّة في تخيّل ذاتها كجماعة في حدود سياسية، نشأ أنموذج معياري قابل للنسخ والقرصنة.وأصبح أنموذجاً قابلاً للتّفاعل الثقافي والسياسي وللمساهمة في تخيّل الجماعة القوميّة في مناطق أخرى من العالم.ولتوضيح ما يقصده الكاتب بـ (المتخيلة) يضعها في تعارض مع فهم (غلنر) لإختراع الأمم والشّعوب بمعنى الخداع، فيقول : (يقدّم (غلنر) بشيء من الحدّة ما يمكن مقارنته بما يقدمه (رينان) حيث يقرّر أنّ (القومية ليست يقظة الأمم على وعي ذاتها: إنّها تخترع الأمم حيث لا وجود لها) غير أنّ العيب في هذه الصياغة يتمثّل فيما يبديه (غلنر) من قلقٍ شديد لأن يبيّن أن القومية تتخفّى وراء مزاعم زائفة، وهو ما يدفعه لأن يحوّل (الاختراع) إلى (تلفيق) و (زيف) لا إلى (تخيّل) و(خلق)، وبذلك يكون ما يعنيه أن هناك جماعات تمتاز عن الأمم بأنّها (حقيقيّة) إذا قورنت بها. والحال، أن كل الجماعات التي تفوق في حجمها حجم أبسط القرى القائمة على التّماس والاتصال المباشرين، وربما هذه القرى أيضاً هي (جماعات متخيّلة)، ولا يقتصر الأمر على التمييز بين المتخيّل والخيالي، بل يتعدّاه إلى توضيح مهم لأغراض الكتاب، ويتلخّص هذا التّوضيح بأنّه: إذا كانت القومية جماعة متخيّلة، فليست كل جماعة متخيّلة هي قوميّة، ذلك أن الطائفة إذا عبرت حدود القرية، وكان ممكناً تصوّر الانتماء إليها كما لو أنه انتماء إلى جماعة فهي جماعة متخيّلة، والجماعة الدينيّة أو الطائفة كجماعة عابرة للقارات والحدود هي أيضاً جماعة متخيّلة عند (أندرسن)، لكنّها في حالة أوربا انهارت بانهيار أدوات تخيّلها : من انحسار اللاتينيّة كأداة تواصل لـ (لإنتليجنسيا) إلى تراجع سلطة (الإكليروس) على خيال العامة وزمنهم وأجندتهم .ويتمنّى مصدّرو الكتاب له أنْ يسدّ ثغرة بين النظريات التي تعتبر القومية (إثنيّة محدثة) كما هو الحال لدى (أنطوني سميث) وتلك التي تعتبرها مجرّد أيديولوجيا برجوازية كما يفعل منظّرو الماركسية، وثالثة تعتبرها نتاج المجتمع الصناعي، كما هو حالة (إرنست غلنر) ورابعة تضع لها تعريفات حديديّة منزوعة السياق التاريخي ومعمّمة على العالم بأسره كما فعل (جوزيف ستالين) في كتيّبهِ عن مسألة القوميات وخامسة ترى فيها مجرّد اختراع عابر، كما فعل (إيلي خدوري) من اليمين وهوبسباوم من اليسار.ونحن أمام عمل بحثي تخصّصي أمين، ورؤية نظرية ثاقبة لا يمكن الاستغناء عنه في دراسة القومية والهوية في العصر الحديث. ويردّ (أندرسن) في نهاية الكتاب على الادعاءات غير الصحيحة، الإتهامية كقول (توم نايرن): من أن القومية هي مرض التاريخ التطوري الحديث، شأنها شأن (العصاب) لدى الفرد، حيث يكتنفها إلى حد بعيد الإيهام الجوهري ذاته، وتتمتّع بالقدرة الأساس ذاتها على التدهور والتحوّل إلى ضرب من الخبل، الذي يضرب بجذوره في معضلات الضعف والعجز المنتشرة في معظم أرجاء العالم..والتي لا دواء لها بشكل عام، ويتابع (أندرسن) قائلاً يجب التّخلّي عن خرافةِ: (إنّ الماركسيين كماركسيين ليسوا قوميين) أو) إنّ القومية مرض من أمراض التّطوّر التاريخي، ونبذل بدلاً من ذلك ما بوسعنا كي نتعلّم تجربة الماضي الواقعية والمتخيّلة). وإنّه لممّا يجعل الأمور أسهل، في اعتقادي، أنْ نتعامل مع القومية على أنّها من قبيل (القرابة) و(الدين) وليس (الليبرالية) أو (الفاشية)، وإليكم ما يقترحه بروح (أنثروبولوجيّة) كتعريف للأمّة : (الأمّة جماعة سياسية، متخيّلة، حيث يشمل التّخيّل أنّها محدّدة، وسيّدة أصلاً) والكتاب… مع أنّه ليس كتاباً شاملاً عن الظاهرة القوميّة، لا بالمعنى النظري ولا التاريخي، فإنّه يعجُّ بالّلمعات الفكرية ويعتبر ذلك التعريف من أهمّ هذه الّلمعات وعلينا هنا، أن نفحص المفاهيم، أو العناصر المفهوميّة المكونة لهذا التعريف: 1ـ جماعة 2ـ متخيّلة 3ـ يشمل تخيّلها، أنَّ لها حدوداً، وأنّها سيدة، أو ذات سيادة. وما يهمّنا هنا أنّ الانتماء إلى القومية، بموجب هذا التعريف هو انتماء من نوع الانتماءات إلى (جماعة) إلى (أهل) إنّه نوع من الانتماءات التي تتضمّن تعريفاً للذّات والهويّة وولاءً شخصيّاً ومحبّةً واستعداداً للتضحية.
* /الجماعات المتخيّلة ـ تأملات في أصل القومية وانتشارها/
* المؤلّف/ بِنِدِ كتْ أندرسن / ترجمة/ ثائر ديب / عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ بيروت/2014م