لماذا كان كارل ماركس محقاً؟ (10)
كان ماركس محقاً عندما قال بأن هناك نزاعاً من جهة، وتضافراً من جهة أخرى، بين الماديّ والروحيّ. ولم يكتف بالتنديد بمجتمع الطبقات، بسبب شناعة أخلاقه، مع أنه فعل ذلك أيضاً، بل اعترف بأن الوفاء بالروحي بحاجة إلى قاعدة مادية. لا يمكن بناء علاقات عقلانية عند الجوع. وكل تواصل بين البشر يجلب معه أشكالاً جديدة من المعيّة من جهة، والنفور من جهة أخرى. كما يمكن للتقنيات الجديدة أن تحدّ من إمكانات الإنسان وأن توسّعها أيضاً. ولا يوجد ما يبرر أن نمدح الحداثة دون تفكير، ولا أن نلعنها. فمميّزاتها الإيجابية والسلبية ضرورية إلى حدٍّ بعيد في عملية التطوّر ذاتها. ولهذا لا يستطيع سوى التوجّه الجدلي، الذي يراعي أن التناقضات هي من خواصّ التطوّر، إنصاف الحداثة. ومع ذلك، تطرح نظرية ماركس عن التاريخ مشكلات حقيقية. فلماذا تكون الآليّة ذاتُها، أي النزاع بين القوى المنتجة وظروف الإنتاج، فعّالة أيضاً عند الانتقال من مجتمعٍ طبقي إلى مجتمعٍ طبقي آخر؟ وكيف نفسّر هذا الاستقرار طيلة فترات زمنية طويلة؟ وهل من المستحيل حقاً إسقاط نظامٍ وهو في أوج قوّته إذا كانت المعارضة السياسية قويّة بما فيه الكفاية؟ وهل علينا أن ننتظر حتى تضعف القوى المنتجة؟ ألا تستطيع تنميةُ القوى المنتجة، عن طريق تطوير إجراءات قمع جديدة مثلاً، إضعاف الطبقة المستعدة لاستلام السلطة؟ صحيح أن تنمية القوى المنتجة تؤدي عادة إلى نشوء طبقة عاملة جديدة أكثر كفاءة وأحسن تنظيماً وأفضل تعليماً و(ربما) أوعى سياسياً وأكثر تنوّراً، إلا أن هذا ما يؤدي أيضاً إلى تطوير المزيد من الدبابات وكاميرات المراقبة وانتشار الجرائد اليمينية وانتقال أماكن العمل إلى مناطق أخرى. فالتقنيات الجديدة (الأتمتة) يمكنها أن تحلّ محل العمال وأن تدفع بهم إلى الإحباط السياسي. وعلى أية حال، تؤثّر في قضية مدى نضوج طبقةٍ مّا، للثورة، عواملُ أكثر بكثير من استعدادها لتطوير القوى المنتجة، وهي عوامل لا تُحصى، فكيف لنا أن نعرف أيَّ عاملٍ محدَّد من هذه العوامل الفاعلة قي المجتمع سيكون مفيداً لهذا الهدف؟
لا يمكن تفسير تغيّر الظروف الاجتماعية ببساطة عن طريق تطور القوى المنتجة. وقد لا يؤدّي تطوّر القوى المنتجة جذرياً، بالضرورة، إلى نشوء ظروف اجتماعية جديدة، كما هو الحال في الثورة الصناعية. فالقوى المنتجة ذاتها يمكنها التعايش مع ظروف اجتماعية مختلفة (الستالينيّة مع الرأسمالية الصناعية مثلاً).
وإذا نظرنا إلى قطاع الزراعة المعتمد على صغار الفلاحين منذ الأزمنة الغابرة حتى الآن، نجد أن طيفاً واسعاً من علاقات الملكيّة كان سارياً في المجتمع. كما تستطيع ظروف اجتماعية مختلفة أن تنمّي قوى منتجة مختلفة. لنتذكّر فقط قطاعي الصناعة والزراعة في النظام الرأسمالي. القوى المنتجة وظروف الإنتاج لا يسيران يداً بيد عبر التاريخ. وفي الواقع، تفتح كل مرحلة من مراحل تطوير القوى المنتجة آفاقاً واسعة للعديد من العلاقات الاجتماعية الممكنة، ولا يمكن معرفة أي منها ستفوز مسبقاً، كما لا يمكن معرفة أي قائد ثوري كامن سيظهر في الوقت المناسب، عندما تصل الأزمة إلى ذروتها التاريخية. وبكل بساطة، قد لا توجد أحياناً طبقة قادرة على الاهتمام بتطوير القوى المنتجة، كما كان الحال عليه في الصين الكلاسيكية.
ومع ذلك، نرى أن العلاقة بين القوى المنتجة والعلاقات الاجتماعية وضّاءة جداً. فهي تبيّن لنا أن علاقاتٍ معيّنة لن تكون ممكنة، إلا إذا وصلت قوى الإنتاج إلى مستوى معيّنٍ من التطوّر. وإذا كان لا بد من أن يعيش البعض برخاء ملحوظ، فلا بد من إنتاج المزيد من القيمة الزائدة. ولن يكون ذلك ممكناً إلا بعد الوصول إلى درجة تطوّر معيّنة.
لا يمكن الإنفاق على قصر ملكي وحاشيته، وبضمنهم المطربون والخدم والحشم ومهرّج البلاط، إذا كان جميع المعنيين ممن يضطرون لتربية الماعز أو للبحث عن جذور النباتات للبقاء على قيد الحياة.
صراع الطبقات في الجوهر هو صراع على القيمة الزائدة، ومن المحتمل أنه سيبقى كذلك، مادام لا يوجد ما يكفي للجميع. تنشأ الطبقات دائماً عندما يكون الإنتاج المادي منظَّماً بحيث تضطر مجموعة من البشر، من أجل البقاء على قيد الحياة، إلى التنازل عن فائض عملها لصالح مجموعة أخرى. عندما تنعدم القيمة الزائدة أو لا تتوافر إلا قليلاً، كما هو الحال فيما يسمى (الشيوعية البدائية)، يضطر كل إنسان للعمل ولا يستطيع أحد العيش على حساب الآخر، ولهذا لا يمكن للطبقات أن تنشأ. أما فيما بعد، تتشكل قيمة زائدة كافية للإنفاق على طبقاتٍ، كالإقطاعيين مثلاً الذين يعيشون على حساب تابعيهم. يستطيع النظام الرأسمالي فقط، إنتاج قيمة زائدة كافية لإزالة النقص، وبالتالي الطبقات الاجتماعية معه، لكن الاشتراكية فقط هي التي تحقق ذلك فعلياً.
تأليف تيري إيغلتون