الـ«بريكس» تقود مسيرة الانعتاق من الدولار

ما كاد المونديال ينتهي حتى انطلقت حماسة جديدة في البرازيل مع إعلان البلدان النامية الكبرى إنشاء مصرف استثماري تنموي حجمه 50 مليار دولار وآلية لتأمين الاستقرار النقدي خارج سلطة الدولار، وتبلور أمل جديد بإمكان الانتفاض على نظام مالي عالمي استمرّ قرابة 7 عقود ضمن خلالها مصالح الأقوياء بفساد وتحيّز، وأهمل الشعوب المقهورة بوقاحة.

دخلت الولايات المتحدة مؤتمر (بريتون وودز) عام 1945 متسلّحة باقتصادها القوي وبأكثر من 20 ألف طنّ متري من الذهب ، حينذاك كانت أوربا، وتحديداً المملكة المتحدة، في حالة إرهاق رهيب بعد الحرب العالمية الثانية ؛ بعد انتهاء فعاليات المؤتمر الشهير، كانت أمريكا سيدة العالمين النقدي والمالي ، رُبط الدولار بالذهب وأضحى العملة الكونية ، وتأسست المؤسسات التي ترعى (التوازن الدولي) بسيطرة أميركية مكشوفة مع حصص مرعية للقارة العجوز.

بعد سبعين عاماً على هذا الحدث التاريخي، استضافت مدينة فورتاليزا البرازيلية، هذا الأسبوع مؤتمر البلدان النامية الكبرى أو مجموعة BRICS ، الذي يهدف إلى قلب المعادلة التي أرساها الأول!

فقد توصل قادة البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا، إلى اتفاق على إنشاء مصرف استثماري بأهداف تنموية، يبلغ حجمه المالي50 مليار دولار، سيرى النور ويبدأ بتقديم القروض فعلياً في عام 2016 بعد إقراره على مستوى السلطات التشريعية في البلدان المعنية.

في المبدأ، يهدف هذا البنك إلى طرح البديل عن مؤسسات (النظام القائم) مثل : البنك الدولي، والبنك الأوربي للاستثمار والتنمية، التي أثبتت التجربة مراراً أن قراراتها ملوثة سياسياً، وبمصالح غربية واضحة، على حساب ميزانيات الشعوب ورفاهيّتها.

الاتفاق يُعدّ

غير أن ما اتفق عليه القادة لا يشمل هذا فقط، بل توصلوا إلى إقرار آلية الدعم النقدي بقيمة 100 مليار دولار، وهي مشكّـلة من الاحتياطات الأجنبية لكل بلد، وتُشكّل خزانة يغرف منها البلد المأزوم نقدياً من دون الاضطرار إلى الركوع على باب صندوق النقد الدولي وتوسل قرض بفوائد وشروط خيالية.

للخطوة التي اتخذتها البلدان النامية الخمس أبعادها الجيوسياسية؛ فهي تأتي في وقت يهاجم فيه الغرب روسيا، لسياستها في شرق أوربا، ويفرض عليها عقوبات ، مثلاً، لقد شكّل الضغط على الروبل والتلويح بعزل روسيا عن المؤسسات المالية العالمية أخطر أوجه (العقاب الغربي)، بعد اندلاع أحداث شرق أوكرانيا وسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم.

أعرب قادة المجموعة بصراحة عن رغبتهم في الانعتاق من هذا التسلط المالي والنقدي الغربي، وتحديداً من قبل الولايات المتّحدة ، وبحسب الرئيسة البرازيلية المضيفة (ديلما روسيف)، فإنّ آلية الدعم النقدي ستساهم في احتواء الهشاشة التي تواجهها الاقتصادات المختلفة بسبب وقف سياسة التوسع النقدي في الولايات المتّحدة ، أي برنامج التسيير الكمي أو شراء المصرف المركزي للسندات الحكومية بهدف تحفيز السوق المالية؛ ما يعني أن اقتصادات المجموعة لن تعود مرهونة كلياً لسياسات واشنطن أو لعقوباتها.

الأمل الذي تبثه مجموعة الـ(بريكس) اليوم يتمثّل في التوازن الذي تفرضه على العالمين النقدي والمالي، والذي لا يُمكن إلا أن يكون مفيداً للفقراء والمهمّشين. فعلياً، وبعد انطلاق (بنك التنمية الجديد) ، كما اصطلح على تسميته ، سيفتح أيضاً باب العضوية لباقي البلدان المهتمة، شرط أن تبقى حصّة الدول المؤسسة من رأس المال فوق 55 في المئة.

لم يكن مخاض ولادة البنك سهلاً. (لقد نجحنا قبل انتهاء المباراة بعشر دقائق وتوصلنا إلى اتفاق مُرْضٍ للجميع)! هذا ما قاله أحد الديبلوماسيين لوكالة (رويترز)، في إشارة إلى صعوبة المشاورات التي كانت دائرة.

فعلياً، استمرت المحادثات قرابة عامين متأرجحة بين طموحات الصين والهند للتمتع بنفوذ أكبر في المؤسسة الجديدة ، مقارنة بحصص الآخرين ، ولكن الأهم هو أن الاتفاق يُعدّ الإنجاز الأكبر للمجموعة، منذ تموضعها المتقدم عام 2009 للمطالبة بدور يناسب حجمها في الاقتصاد العالمي وهو الخمس تقريباً.

هكذا استقرت الصفقة على حصول الجميع على حصة مساوية ، المقر سيكون في الصين؛ الرئيس الأول سيكون هندياً؛ الرئيس الأول لمجلس الحكّام سيكون روسياً؛ الرئيس الأول لمجلس المديرين سيكون جنوب أفريقياً.

(إنها المحاصصة الديموقراطية!) إذا أردنا أن نستخدم تعبير وزير المال البرازيلي (غيدو مانتيغ) الذي شدّد على أن البنك، بخلاف المؤسسات الدولية الأخرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ــ المُدارين أمريكياً وأوربياً ــ سيكون (ديموقراطياً على نحو فعلي).

أي عولمة سنشهد خلال العقد المقبل نتيجة قرارات البلدان النامية؟ الجواب سيبدأ بالتبلور سريعاً، وتحديداً بعد عامين وليس بعد أربعة أعوام، كما هي الحال عليه في مونديال كرة القدم!

 

عن جريدة (الأخبار) الإلكترونية

العدد 1140 - 22/01/2025