كرم الأزقة وخيوط التمنيات..
لقد شحَّت دموع الناس ولم يجد بريق الفرح مكاناً له في عيونهم.. ورسمت الأزمة خريطة جديدة من الآلام.. ومن الصعب أن نقوم بعملية إحصائية لهم وأرشفتهم في السجلات، كشاهد حيّ على تاريخ مرحلة من العواصف هبَّت على سورية واقتلعت الابتسامات من جذورها، وألقتها جثثاً في البراري لتنهشها الوحوش والطيور الباحثة عن طعام شهيّ!
يشكون ويبكون على أعوام مضت ولن تعود.. وتاهوا في شوارع المدن.. وضاعوا في أزقة الفقر والتفتيش عن مأوى آمنٍ ورغيف خبز لا يزالون يبحثون عنه !
وعندما أسير في شوارع العاصمة على قدمين من الصبر، تفيض روحي بأحزان عتيقة عادت مكرهة والتصقت بجدار الروح بحثاً عن زاوية آمنة، بعيداً عن الأحلام التي تقتحم ذاكرات من تشرّد بقوة الإكراه ولعنة القذائف وتكبيرات الموت.
ما يثيرني كل يوم ويهزُّ مشاعري حتى الإغماء، ويربط لساني بشريط من الدموع على الأطفال الصغار، وهم يتنقلون بين الحافلات عند الإشارات الضوئية.. يمدّون أذرعهم.. وتظلُّ أكفَّهم مبسوطة عل حافات بلّور السيارات ترافقها الابتسامات النابضة بالاحتراق.. وأغلبهم ينكفئون بخيبة اعتادوا على هضمها في معد خاوية لن تقدر على هضم الجوع..!
ولن تغيب من شاشة ذاكرتي مهما تبدَّل الزمن، صورة ذاك الرجل أثناء هطل الثلوج والبرد القارس، في منطقة (السبع بحرات) وهو يحمل طفلة نصف عاريةحافية القدمين،وفرشة إسفنجية بالية وبطانية هاربة من مناطق الجفاف.. ولا أدري لماذا وقف بين مفترق الطرق وعن ماذا يبحث!
لقد اختفت الكاميرا الخفية من شوارع العاصمة، وهاجرت الأخلاق إلى أسواق بعيدة ولم يعد أحد يحتفظ بما كان يسمّى ب (الأسرار)، خاصة أن المشي ساعة أو ساعتين يومياً بسبب الازدحام ووجود الحواجز، يعرّفنا أكثر على العشرات من الرجال والنساء والأطفال الذين يسندون ظهورهم إلى الجدران، أو الذين يفترشون الأرض أمام مداخل الأبنية.. ومن الذين واللواتي يتربعونَ فوق الجسور.. وما (يغري) أيضاً في الصباحات الباردة، من يحمل غطاءه وينشره على سور الحديقة ربما ينتظر ظهور الشمس لتدفئه!
لقد (تطوَّرت) دمشق وأصبحت تضمّ مدناً أخرى.. من الملايين القادمين من الجهات الأربع.. وتغيَّرت أنفاس شوارعها وأرصفتها واختلطت رائحة الأرياف برائحة المدن.. وتعددت اللهجات والأحلام والألوان في نسيج اجتماعي أثبت تماسكه رغم المآسي والآلام وكؤوس الصبر..!يشكون.. ويبكون ويجولون في الأسواق المكشوفة والمسقوفة وأسواق الخضار والفاكهة.. ويعودون خائبين يضمّدون جراحهم بشاشات الأمل وخيوط التمنيات.. وهم يدركون أنهم يعدّون على سُبحاتهم من بقي منهم ومن أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم على قيد الحياة..!
مفارقات صارخة.. وكرم الأزمة يفيض تشرداً وفقراً وجوعاً.. والغلاء..
الفاحش.. هذا الوحش يشعل فتيل الموت كل دقيقة في حياة المواطنين..
أزمة لم تُبقِ على شيء سليماً معافى.. أزمة طحنت الحجر والبشر والزمن.. ولا يوجد من يرفو هذا الاهتراء اللعين ويزيل صديد هذه الجروح..!