هذا مجتمعنا السوري؟!

يتوجه العالم اليوم إلى معالجة القضايا الفكرية، الّتي تظهر في الشّارع، وذلك بدراستها ومناقشتها إدارياً، و لكن الدراسات الإدارية لا ترتبط دائماً بمجال العمل في الشّركات والمؤسسات والهيئات، لكنّها ترتبط أيضاً بعمل الجماعات والأسر والعلاقات الشّخصية كما ترتبط بالأندية والاجتماعات والعمل الجماعي.

ويؤكد الباحثون في النّشاط الإنساني أنّ شخصية الإنسان شخصية عميقة جداً، لذلك من الأسهل على كلّ فرد أن يكتشف مظاهر سلوك غيره من اكتشافه لمظاهره السّلوكية، وكلّما نضج الإنسان تمكّن من أن يكتشف ذاته و يطوّر سلوكه، وبالتالي يتعرف على شخصيته بوضوح أكثر؛ فهناك حقائق أساسية ترتبط بالفرد وبالمجتمع تُعبّر عن الخلفية الّتي تدفع الإنسان لسلوك أو تصرف معيّن، يصبح نتيجة للطريقة الّتي ارتبط بها النّاس فيما بينهم وكوّنت لكلّ جماعة نهجها الخاص الّذي يظهر في تصرفاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم.

الميل للذات

يُولد الطّفل محبّاً لنفسه، وكلّما نما تعلّم، بما يكتسبه من المجتمع – من صفات – أن يهتم بذاته ويبذل جهده في تنميتها وتطويرها، فكلّ فرد مسؤول عن بناء نفسه كالاهتمام بالدراسة والبحث عن لقمة العيش، والاعتناء بمظهره ولباسه، والعمل جاهداً ليلعب دوراً مهماً في الوسط الاجتماعي الّذي يعيش فيه، ليكون مواطناً صالحاً وناجحاً.

إنّ الميل إلى الذّاتية صفة بشرية، ودافع إنساني طبيعي، فهو يختلف في اتجاهه عن الأنانية، الّتي يسعى فيها الفرد للارتقاء على أكتاف الغير، أو يفضّل مصلحته دون الاكتراث للآخرين.

من الضّروري أن يبني الإنسان علاقة متينة مع ذاته تقوده إلى عمق النّضج الإنساني الّذي هو رهن بطريقة تعاملنا مع المواقف والتّحديات الّتي يمرّ بها كلّ شخص في مسيرته الإنسانية، فالإنسان غير الناضج لا يرى سوى الصّعوبات الّتي تُعمي بصيرته فيعجز عن تخطّيها، والأهم من ذلك أنّه يعجز عن التّبصر في موقفه منها.

فالمصاعب تمر ولكن موقف الإنسان منها هو الّذي يبقى محفوراً في أعماقه، فكلّ ردة فعل مهما كانت درجة نضجها، تتفاعل لتكوّن بداية عادة جديدة في داخله، ومن خلال المواقف وردات الفعل الناضجة يتمرس كلّ إنسان على النّضج الّذي يُحدّد كيانه.

لذلك فإن مسؤولية كلّ فرد أن يقوم بتدريب نفسه على النّضج الاجتماعيّ، وذلك ببناء علاقة صحيحة مع ذاته كي لا يكون حجر عثرة في طريق غيره الّذي يبذل جهداً كبيراً ليترك أثراً إيجابياً في تاريخ حياته. فالنضج الاجتماعي يعني تقبّل الآخر واحترامه، وهذا يتطلب تحرير النّفس البشرية من قيود الغيرة والحسد الّتي تقود إلى الضّلال.

المجتمع القبلي

نشأ الشّعب في بلادنا، في مجتمع زراعي، عاشت فيه الأسرة لسنوات طويلة تخضع لرأس الأسرة الّذي يكون في الكثير من الأحيان هو الجدّ الأكبر، فله الكلمة المسموعة وله الاحترام بغض النّظر عن موقفه إن كان إيجابياً أو سلبياً، وارتبطت الأسر فيما بينها عبر سنوات طويلة، وامتد المظهر القبلي ليشمل فئات أخرى من المجتمع، فالإنسان في هذا المجتمع يجد نفسه في الجماعة الّتي ينتمي إليها، يدافع عنها، بالحق أو بالباطل، لمجرد الدّفاع عن الجماعة.

الإنسان في المجتمع السّوريّ هو سوريّ ولكنّه من ضمن انتمائه إلى سوريته ينتمي أيضاً إلى مؤسسات أو هيئات أو أحزاب، أو مراكز ثقافية الخ… أي ينتسب إلى فرق أصغر داخل الجماعة الكبيرة الّتي قد تتغلب في أغلب الأحيان على الانتماء الأكبر، وهنا يأتي الدّور التّربوي الّذي يهتم بوضع منهجية تهتم بتنمية الانتماء الأكبر باعتباره الصّالح العام على الانتماء للأصغر داخل المجتمع الواحد.

من الضّروري أن ينتمي الفرد إلى جماعة معينة لأنّ ذلك يشعره بالراحة والأمان والاستقرار، ما يزيد من تماسك الجماعة ويطور قدرتها على حلّ المشكلات بالبحث عن أحدث الوسائل لتنميتها ونجاحها. ولكن التّحدي يبدأ عندما تنغلق الجماعة على ذاتها لأنّ ذلك يؤدي إلى انغلاق أفقها الفكري بسبب انطوائها على مصالحها الذّاتية، فتبدأ بوضع حدّ لأهدافها وتنسى الصّالح العام.

إنّ أكثر ما يُميّز المجتمع السّوري بجميع أطيافه هو انتماء أفراده إلى مجموعات صغيرة وارتباط هذه المجموعات فيما بينها بما يتناسب مع المصلحة العامة، تبدأ بالحارة وتتوسع لتشمل المحيط ثم مجتمع بأكمله، وهذا الانفتاح هو الّذي أكسب أفراده المناعة في التفاعل مع العالم المعاصر بفعالية دون أن يؤثر ذلك على الشّخصية الوطنية لكلّ جماعة. فتعاونهم لحلّ المشكلات البسيطة الّتي تعيشها كلّ جماعة ساعدهم على تحمل قدر من المسؤولية لتنمية قيمهم في خدمة الجماعة والتّعاون لخدمة جماعة أخرى، وهذ هو الحبّ الإيجابي للوطن الّذي يتجلى في الشعور بمشكلاته والتّعاون مع الغير لحلّها، والتّفاني في خدمته والالتزام بمبادئه وقيمه وقوانينه والمشاركة الفعّالة في الأنشطة والأعمال والبرامج الَّتي تستهدف رُقيّ الوطن والمحافظة على مكتسباته.

المجتمع العاطفي

نحن مجتمع عاطفي، تغلب فينا العاطفة كثيراً على العقلانية، والعاطفية شأنها شأن القبلية، تتأثر بالتّربية منذ الطّفولة، فالإنسان العاطفي يتجه بكلّ عواطفه تجاه موقف معيّن، ولا يقدر أن يتزعزع عنه بسهولة.

والعاطفة هي أرضية التّفكير ولكن متى انفعلت، سيطرت على العقل، ومنعته من التّفكير العقلاني الموضوعي، فالعاطفة كالعاصفة، متى ثارت غطت كلّ شيء، أمّا العقلانية فهي كالنّسيم الهادئ الّذي يريد أن يبحث ويدرس ويتحقق.

من المؤكّد أنّ للعاطفة قيمتها وأهميتها، شريطة ألاّ تتحوّل إلى عاصفة، وهي عمل عقلاني  في حدّ ذاتها عندما تفسح للعقل مجالاً للتفكير الهادئ المتأني. ولكن خطورة العقلانية تكمن في نوع التّعليم، فعندما يكون التّعليم منحازاً يمنع صاحبه من حرية التفكير ويرفض اختلاف الرّأي وسعة الأفق، فالتّعليم المتحيّز يمنع صاحبه من استخدام طاقته الفكرية الضّخمة بحرّية كافية.

ولكي نتمكن من الابتعاد عن العقلية القبلية والعقلية العاطفية، نحن بحاجة إلى تطوير الفكر الموضوعي داخل الجماعات الصّغيرة، فالموضوعية تدفع إلى مواجهة الحق وتحقيق العدالة بين النّاس، وتبذل جهدها لتضع المصلحة العامة فوق المصلحة الشّخصية وتبني العلاقات السّليمة بين النّاس. الموضوعية سلوك ينهجه الإنسان بالتربية لا بالوراثة، فالإنسان يعيش في مجتمع الأسرة والدراسة أو العمل الخ… وهو محصلة لهذه المجتمعات الّتي يعيش فيها. من أجل ذلك كانت التّربية ومازالت الموّجه الأساسي لبناء الإنسان وتمليكه الأدوات المناسبة ليكوّن أسلوبه في الحياة والعمل، فهي الّتي تساعد الإنسان على أن يضع الحدود المناسبة لتصرفاته.

لذلك التّربية العقلية ليست مجرد أسلوب نظري، ولكنّها طريق عملي في الحياة، فالأطفال يتعلّمون من والديهم، والتّربية الصّحيحة هي تدريب على الممارسة العقلية، والتّفكير التّكاملي، والطّفل الّذي يتعود منذ طفولته على الحوار وعلى التّفكير العقلي سيستمر بذلك.

إلى جانب ذلك يحتاج الإنسان إلى أن يبني نفسه وأن ينمّي ثقته بنفسه، فالثقة بالنفس تجعل الفرد قوياً كالصّخر، لأنّ الذّاتي يكون ضعيفاً لشعوره بالنّقص، ولا يستطيع أن يقيّم ذاته تقييماً صادقاً ليتحرر من الرواسب السلبية المتراكمة بداخله، أمّا الشّخص الّذي يقيّم ذاته بصدق وشفافية، فإنه يستطيع أن يكون موضوعياً ويميّز بين الصّواب والخطأ، وهذا يجعل منه إنساناً ناضجاً يعرف كيف يختار لنفسه ما يقوم به لأنّه يقدر أن يعمله بنجاح، ويرفض ما لا يتفق مع إمكاناته دون أن يرى في ذلك عيباً. وهذا لا يعني جمود الإنسان ورفضه للتطور، بل إنّ قبوله لواقعه هو نقطة الانطلاق نحو الطّموح الإيجابي، لأنّه بذلك يختار المجال الّذي يتناسب مع قدراته وكفاءاته مما يساعده على نجاحه، ما سيدفع المجموعة الصّغيرة الّتي ينتمي إليها للتّقدّم نحو الأمام.

وبعد أن ينجح الإنسان في بناء علاقة صحيحة مع ذاته هو بحاجة للانفتاح على الآخر وأن يدّرب نفسه على المشاركة، فيحسّ مع الآخرين ويهتم بهم كما يهتمون به.

كما أن التّربية على المشاركة تُساعد الإنسان على ن يجد نفسه مع الآخرين، فلا يكون مستقلاً لدرجة لا يهتم فيها إلاّ بمصلحته الشّخصية. فالمشاركة تُساعد الفرد على أن يضع نفسه مكان الآخر، ويشعر بشعوره، وبذلك يتمكن من أن يرى الأمور من أكثر من زاوية وهذا يساعده على أن يكون عادلاً. و تُعطي المشاركة الإنسان فرصة للتكيّف مع برامج الآخرين وأنواع شخصياتهم، فلا يقدر اثنان أن يعملا معاً دون أن يكون أحدهما مستعداً للتنازل عن بعض أساليبه في سبيل التّكيّف مع الطّرف الآخر، وهذه المرونة ضرورية لسير العمل وتقدمه.

كما لا يمكن أن نغفل في أيّ نهج تربوي أن يكون هناك إرشادات تُمكّن الإنسان من مواجهة الّذين يكرهونه ويتمنون له الشّرّ، فالمجتمع مليء بمثل هؤلاء الأشخاص الحاقدين والكارهين الّذين يلحقون الأذى بالأبرياء لمجرد أنّهم لا يستطيعون تحمّل نجاحهم. ولمواجهة مثل هؤلاء يجب أن يضع قائد كل جماعة قيماً واضحة وثابتة تُجبر الجميع على السّير وفقها.

إنّ التّربية الموضوعية كانت موجودة في المجتمع السّوريّ بقوّة – ولكن بتوالي الأزمات على البلاد أخذ النّاس يسلكون النّهج الذّاتي في التعامل فيما بينهم داخل الجماعات الصّغيرة وخارجها. فإذا عدنا إلى ممارسة الموضوعية في حياتنا العملية وسلكناها ورسخنا بسلوكنا نهجاً فسنتقدم في علاقاتنا الإنسانية وسندعم حركة النّشاط الإنساني في المجتمع بسرعة ونحو الأفضل.

العدد 1140 - 22/01/2025