الشاعر التشيلي النوبلي بابلو نيرودا… في ذكرى رحيله
في 23 أيلول (سبتمبر) من عام 1973 فقدت الإنسانية جمعاء شاعر الأرض والحب والثورة بابلو نيرودا، أحد أشهر كتاب أمريكا اللاتينية على الإطلاق. فقد عجل مرض السرطان في اختطاف هذا الشاعر التشيلي العظيم والخطيب البليغ والعاشق الكبير والسياسي الملتزم، بعد اثني عشر يوماً من اغتيال صديقه سلفادور ألليندي إثر الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال بينوشيه في الحادي عشر من أيلول 1973.
لم يعرف الشاعر المولود عام ،1904 باسمه (بابلو نيرودا) حتى عام ،1920 فقد كان ينشر أغلب نتاجه الأدبي باسمه الحقيقي وهو (نفتالي رييس باسوالتو)، حتى جاءت مناسبة نشر قصيدة له تحت عنوان (رجل)، التي وقعها باسمه المستعار (بابلو نيرودا)، ليستمر فيه حتى وفاته، وليعطي هذا الشاعر اسمه الجديد أكثر من دلالة ومغزى. لأنه خير من يلخص حياته، بتجاربها وبتركيبتها العميقة والواسعة.
ونيرودا الشاعر الشيوعي اليساري الحائز على جائزة نوبل للآداب، كان صديق لوركا وبيكاسو وبول إيلوار. وهو لم يكن بالضرورة شاعراً وسياسياً – دبلوماسياً، بل كان رجلاً مليئاً بالحياة يحب الخمر والنساء (ثلاث زوجات وعدداً كبيراً من العشيقات) والأغاني.. وقد أحب الشاعر الطبيعة، بقدر ما أحب الحياة.
وفي مجمل أعماله جمع صاحب (عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة) ما بين المشهدين، الأدبي والاجتماعي لعصره، ولم يضحِّ بواحد على حساب الآخر، جاعلاً منهما عمادين للمعنى الشعري.
اعترافات (مئة قصيدة حب)..
في مذكراته التي نشرت مراراً، والتي تحمل العنوان: (أعترف أنني قد عشت)،
نتعرف على نيرودا، يقول: (والداي هما من بلدة (بارّال) حيث ولدت أنا هناك في وسط تشيلي، تنمو الكرمة ويكثر النبيذ، من غير أن أذكر، دون أن أعرف إن كنت نظرت إليها مرة بعينيّ، ماتت أمي السيدة (روسا باسوالتو)، أنا ولدت في الثاني عشر من شهر تمّوز (يوليو) من عام 1904. بعد شهر، في آب (أغسطس)، هلكت أمي بمرض السل، لم تعد توجد… لست أرى جيداً في هذه المذكرات تتابع الزمن وتسلسل الحوادث بدقة ونظام… تتشابك في مخيلتي وتتراكم أحداث كثيرة كانت ذات أهمية بالنسبة لي، ويبدو لي أن هذه الحادثة الممتزجة امتزاجاً غريباً بالتاريخ الطبيعي هي أولى مغامراتي الهزلية، ربما كان الحب والطبيعة منذ مطلع حياتي هما أفلاذ شعري).
إن مذكرات كاتب المذكرات ليست لشاعر، ذاك لأنه ربما عاش أقل من شاعر، لكنه التقط صوراً أكثر منه، فهو لذلك يمتعنا بالجزئيات المتقنة المهذبة. بينما الشاعر يمنحنا معرضاً من الأشباح المهتزة المتراوحة بين النار والظل كانعكاس لعصر الشاعر. فهو يقول: (ربما ألم أعش في ذاتي، ربما عشت حيوات الآخرين. بقدر ما استودعت هذه الصفحات من كتابة ستجدد دائماً، كما في غيل الخريف وكما في موسم الكرامة، الأوراق الصفر التي تروح تموت، والأعناب التي ستنبعث في النبيذ المقدسي. حياتي هي حياة صيغت من كل الحيوات: حيوات الشاعر).
وفي مذكراته هذه تتجلّى خلاصة فكره ومفهومه الحياتي والإنساني الشعري. المفهوم الذي يمرر الأشياء لتنتصب وتقف أمامه بهيئة رائعة أخرى، حيث تتلبس بقناعات وبأردية مختلفة. لقد اعترف مراراً بأن أغلب مشاعره كانت تخرج بنفس فورة إحساس الأرض الساخنة بنقيع الماء أو بالمطر بعد جدب. ومن ثم بتتبع خطواته الشعرية.
بين الشعر والسياسة..
بدأ صاحب (الإقامة في الأرض) حياته السياسية بدخوله السلك الدبلوماسي عام ،1927 إذ عين قنصل شرف في (بيرمانيا)، وغادر سنتياغو إلى (بيونس آيرس) ومنها إلى (لشبونة)، وفي مدريد بدأ ينشر قصائد جديدة، ثم تنقل للعمل قنصلاً في بعض الدول الأخرى. وتزوج في عام 1929 من (ماري أنطوانيت أجينار)، وانتقل عام 1931 للعمل قنصلاً في سنغافورة، ثم عاد إلى تشيلي عام 1932. وفي عام 1933كتب (الإقامة في الأرض)، وانتقل في العام التالي قنصلاً في (برشلونة) ثم (مدريد). وقد كرمه الشعراء الأسبان عام 1935 وأوكلت إليه مهمة إدارة تحرير مجلة (كابالو يردي بارلا بويزيه) وهي أفضل مجلة أدبية في إسبانيا آنذاك.
وفي إسبانيا اتصل بالشاعر الإسباني (فيدريكو جارثيا لوركا)، وقد كان اغتيال الشاعر الإسباني المعروف عام 1936 هو ما دفع (نيرودا) لتجاهل وضعه كدبلوماسي فدعم الجمهوريين، وفي هذه الفترة بدأ يكتب مرثيته العظيمة لضحايا الحرب الإسبانية: (إسبانيا في قلبي)، وفي هذه المرثية قدم الشاعر ملامح من الالتزام الاجتماعي والدفاع عن قضايا العدل والحرية.
وفي عام 1938 صدر له في باريس (إسبانيا في القلب) وكتب (نشيد تشيلي العام) الذي أصبح فيما بعد (النشيد العمومي)، وعين قنصلاً في (مكسيكو)، عام 1940 وكتب هناك (نشيد من أجل بوليار).
وفي عام 1942 سافر إلى كوبا وكتب (أغنية حب في ستالينغراد). وقد علقت هذه القصيدة على لافتات كبيرة فوق جدران مكسيكو). وبعد عدة أشهر، أصيب (نيرودا) بصدمة إثر وفاة ابنته في أوربا.
وفي عام 1945 أصبح صاحب (أناشيد أولية) (سيناتور المناطق الريفية في شمال التشيلي). وفي العام نفسه، حصل على (جائزة الأدب الوطنية)، كما حصل على عضوية الحزب الشيوعي في بلده. وسافر إلى البرازيل حيث كرم هناك، وكتب (مرتفعات ماشو بيشو)، بعد ذلك بثلاثة أعوام كتب (نيرودا) مقالة بعنوان (أتهم)، انتقد فيها السلطات التشيلية. وبعد أن تعرض لاتهامات عديدة غادر البلاد إلى باريس.
في عام 1949 سافر إلى روسيا حيث كرمته (جمعية الأدباء السوفييت)، ثم سافر إلى عدد من الدول وحصل على جائزة السلام الكبرى مناصفة مع بيكاسو عام 1950 عن قصيدته (فليستفق الحطاب). وفي عام 1958 صدر كتابه (مئة قصيدة حب). وفي عام 1971 حصل صاحب (النشيد العالمي) على جائزة (نوبل في الآداب). وفي العام التالي بدأ بكتابة (مذكرات)، وهي مذكراته الكاملة. ومن أجل كتابتها تنحى عن منصبه في باريس، وعاد إلى تشيلي حيث استقبله الشعب استقبالاً لا مثيل له.
وفي عام 1973 صدر كتابه الشعري السياسي التحريضي (مدح الثورة التشيلية)، وعمل على تحذير مجتمعه من اندلاع حرب أهلية في ندوات وخطابات عديدة. وحينما أطاحت حكومة عسكرية بالسلطة وأعدم الرئيس سلفادور أليندي، حزن نيرودا لما جرى في البلاد، وتوفي الشاعر الكبير في مستشفى (سنتياغو) في تشيلي، وبعد وفاته صدرت كتبه الأخيرة: (الوردة المفصولة) و(البحر والأجراس).