أي معنى للكلام؟!

إذا كان الكلام أضحى غصة في الحلق، والذاكرة ذاهبة بعيداً حد الغياب، والمواجع القطرية تطغى على ساحاتها، فلا مجال ليجمعنا وجع واحد على قضية واحدة، ولا مجال ليلم شملنا همٌّ واحد على رؤية مصيرية واحدة، وهكذا، نجد أنفسنا أمام واقع تاريخي راهن لا علاقة له بالتاريخ، ولا علاقة له بالجغرافيا، ولا علاقة له بكينونة حياة تبحث في ركام الأحداث عن موطئ قدم لها في زحمة فوضى الأفكار، وفوضى التصورات، وفوضى الرؤية التي ضاق على بصيراتها تزاحم الأضداد في حدقات عيونها التي لم تعد تدري ما الذي يحدث، وما الذي يجري من وقائع تجعل الحليم حيران لما يحدث، وما يجري فوق رقعة أرض استنزفت الدم بما يكفي للأبد، واستنزفت الوجع والآه والحزن بما يكفي لنهاية الزمان، واستنزفت الأشياء بما جعلها تنطق بالأسى والمرارات على الرغم من كونها كمال الجمال والجلال فوق رحابة هذا الفلك الكوني الذي يغص بالفوضى والخراب! فلا الياسمين ياسمين، ولا الزيزفون زيزفون، ولا الكباد كباد، ولا الكلام كلام، ولا للحياة معنى، بعدما ضاق هذا كله من اللون الأحمر القاني، والأرجوان الفاقع، وبعدما زاد الحزن عن حده، وزاد الوجع عن حده، وزاد الموت عن حده غير المعقول، وصرنا لكثرة الوجع والموت وبلاهة الرؤية مما نحن فيه، نبصر بشاعة موت الطفولة المرعبة في غزة ونحن نلتهم الهامبورغر بتلك البلاهة الآثمة، ونبصر الفظائع التي ترتكب ببلاهة عشاق الأراكيل والمقاهي، ونبصر الثقافة على أنها ترف عابر وانتهى، ونبصر المثقفين، في الراهن المقيت الموجع على أنهم ـ (كمالة عدد)ـ لا حول لهم، ولا قوة، ولا رؤية فيما يجري حولهم من أحداث تعصف بالأرض كالزلزال، وتذهب بها كالعاصفة التي تحول ما تسوقه أمامها إلى غبار وخراب ودمار، في حين أن الإحساس تبلّد، والوجدان غفا على امتهان صمته الآثم، والملايين استباحها الموت العاصف في سراديب صمتها وهوانها على الناس، والمدن المحاصرة بالموت والأسلاك، وحدها تقاوم، ووحدها في مجابهة العاصفة، ووحدها من يحق لها أن تكتب تاريخها، وما هو بتاريخنا نحن، وتتغنى بأمجادها في الوقت الذي ضيّعنا فيه أمجادنا، وعزة ما تبقى من مآثرنا، وتحفر بالدم في أعالي أعاليها أسماء شهدائها المبثوثين بيننا بحضورهم الخالد، بلا غياب، بينما نحن في غياب الغياب، وسراديب العتمة والبكاء، تضادات مذهلة، وحكايات أشبه بالمستحيل، ووقائع تفوق ما يتصوره العقل، ويحتمله الخيال، ومع هذا، فثمة حدث جلل يقع الآن أشبه بالمعجزة: مؤلم جداً، ورائع جداً، وكارثي جداً، وبطولي حد الخرافة، وواقعي جداً، وأسطوري جداً، ثمة شيء يحدث، هو أشبه بالولادة الرائعة بعد المخاض العسير، شيء يحدث يبدّل الموازين، ويبعث النشوة، ويقلب مسميات التاريخ المسميات أخرى جديدة، فهل نستثمر ذلك بذكاء، أو يستثمره الآخرون لمصلحة الشيطان؟!

العدد 1140 - 22/01/2025