الأمن والأمان أولوية متقدمة في حياة الناس

شكّل توءم الأمن والأمان على مرّ التاريخ ركيزة هامة وأساسية في حياة جميع البشر بما يشكلونه من مجتمعات ودول، وهما في الوقت ذاته عامل استقرار نفسي مادي ومعنوي، بتوفرهما يُبدع الفكر والمخيلة البشرية، كما تزدهر وتتقدم البلدان والمجتمعات الإنسانية، فتغتني الحياة باتجاهاتها كافة، وترتقي الحضارة بجميع علومها ومجالاتها.

لذا، يؤدي فقدانهما إلى انتشار الخوف والقلق وعدم الثقة بين الناس وغياب الاستقرار، كما يؤدي بالطبع إلى تخلّف المجتمع بكل مكوناته وشرائحه، بسبب عرقلة مسيرة الحياة الشخصية والعامة عن أيّ فعل جاد مُثمر وبنّاء، إضافة إلى إعاقة الفكر والتفكير بمستقبل واعد بحكم حاضر غير آمن لا يفسح مجالاً للأمل.

ولا يخفى على أحد ما كان يتمتع به المجتمع السوري إلى حدّ معقول من أمن وأمان انعكسا على حياة الناس استقراراً واضحاً في معظم مجالات حياتهم وأعمالهم وأنشطتهم، وانعكسا على الدولة تقدماً في بعض الميادين التي شكّلت السياحة مثلاً أحد أهم ركائزها بما هيأه لها الأمن والأمان المطلوبان لهذا المجال عبر أنشطة متنوّعة درّت على الدولة والناس أرباحاً عملت على تنشيط الجانب الاقتصادي، سواء على مستوى الفرد أو الدولة، رغم آفة الفساد التي كانت وما زالت تُعرقل وتُعيق التقدّم المنشود اقتصادياً واجتماعياً.

أما اليوم، وبعد أكثر من ثلاث سنوات ونيف من عمر الأزمة المستفحلة والمستعصية في حياة السوريين عموماً، نجد أن الأمن والأمان بمعناهما الشمولي أو الخاص قد غابا وإلى أمد غير معروف، بحكم العمليات العسكرية التي فرضت واقعاً غير آمن في المناطق الساخنة، وقد جرى التهجير والنزوح بشكل جماعي ولافت، إضافة إلى كل ما تحمله تلك السخونة من قتل وخطف واغتصاب ودمار، فضلاً عن تلك القذائف أو الصواريخ اليومية التي تتساقط على بعض المناطق التي كانت تُسمى بالآمنة، لكنها للأسف لم تعد كذلك رغم غياب العمليات العسكرية عن أراضيها، وإنما بسبب القلق الآني لعموم الناس من سقوط قذيفة هنا أو صاروخ هناك غالباً ما يودي بحياة البعض، مع تخريب ودمار كبيرين، وهذا ما يُسمى بالواقع القتالي الحتمي المُسبب لفقدان الأمن والأمان بشكل عام. وغير بعيد عن تلك العمليات نجد أن حياة السوريين في كل شبر من سورية قد اتصفت بالفوضى والدمار والموت والرعب حتى بات توءم الأمن والأمان في خبر كان، وأصبح الجميع في حالة دائمة من القلق والرعب والترقّب المشوب بالحذر في كل حركة أو خطوة يخطوها، أو كلمة يتفوّه بها بعفوية مطلقة أحياناً ربما تقوده الفقدان أو حتى إلى الموت بلا أدنى محاسبة أو مسؤولية من أيّة جهة كانت رسمية أم غير رسمية. 

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى مختلف نواحي الحياة اليومية للناس، إذ تفاقمت عمليات النصب والسرقة والاحتيال حتى في وضح النهار، لأنها وجدت في الوضع الراهن التربة المناسبة والمثالية لها بلا أدنى ملاحقة قانونية تُذكر، بحكم خروج بعض المناطق والأحياء عن السيطرة، والانشغال بحرب جرفت في طريقها كل مقوّمات الحياة الطبيعية للناس. فكم من حالات سطو مسلّح تعرض لها مواطنون كُثُر في وضح النهار سواء على كوّات الصرافات الآلية، أو في الطرقات والمحلات، وربما بالقرب من أقسام الشرطة أو مراكز ومؤسسات ودوائر رسمية مُحاطة بالحراسة الأمنية المُشددة، كما كثُرت عمليات النشل والسلب حتى صارت شبه عادية ولم تعد تُخلّف الأثر السيئ الذي كانت تخلفه سابقاً، إضافة إلى اقتحام المنازل والمحلات التجارية ونهب موجوداتها تحت تهديد السلاح وبجرأة ووقاحة غير معهودة تقود في كثير من الأحيان إلى مقتل أصحاب هذه المحلات والبيوت على مسمع ومرأى الجوار الذين باتوا اليوم غير قادرين على إغاثة جيرانهم لأنهم خائفون من المصير ذاته، لأن الشكوى إلى مراكز الشرطة لم تعد مجدية، بسبب تراخي رجال الشرطة ومسؤولي الأمن عن التحقيق في تلك الجرائم وملاحقة الفاعلين أينما كانوا.

يُضاف إلى ذلك زيادة انتشار عصابات اللصوص وقاطعي الطرق الذين يتعرضون للمسافرين أو للشاحنات التجارية على الطرق الدولية تحت مسميات أو زي يخدعون الناس به، على أنهم رجال أمن أو جيش، في مختلف المناطق الواقعة تحت السيطرة أو تلك الخارجة عنها، دون أدنى إحساس بالمسؤولية أو حتى الواجب الأخلاقي للمسؤولين عن الأمن في البلاد، بحجة الانشغال بمحاربة الإرهابيين والمارقين، أو بحجة أن هذه المنطقة أو تلك خارج السيطرة.

ولا يفوتنا انتحال البعض لصفة مراقبي التموين الذين ينقضون على المحلات التجارية أو البسطات التي يعتاش منها أُناس بسطاء همّهم الوحيد تأمين رغيف الخبز، وكثيراً ما يُصادرون كل ما يقع في طريقهم تحت تهديد السلاح أو التقارير الأمنية.

كما كثُرت كثرة لافتة حالات الثأر الشخصية المبنية إما على نزاعات سابقة أو حالية عبر القتل والقنص المجاني البعيد تماماً عن مجريات الأمور العسكرية والقتالية القائمة في العديد من المناطق، وطبعاً الضحية دائماً أُناس لا علاقة لهم بكل ما يجري لا من قريب ولا من بعيد، يدفعون حياتهم ثمن فوضى أمنية رهيبة.

يضاف إلى ذلك كله حالات استعمال السلاح الفردي بداعٍ أو بغير داعٍ في الشوارع والأحياء السكنية المكتظة بالقاطنين والمارة، والسبب وجود هذا السلاح بأيدي مراهقين امتطوا صهوة حماية الأمن، أو ما يُسمى باللجان الشعبية والدفاع الوطني، في محاولة لإظهار الذات المقموعة سابقاً عن الإتيان بتلك التصرفات، وبحكم عدم النضوج العقلي والإحساس بالمسؤولية لأولئك المراهقين الذين انتشروا بكثافة لافتة لاسيما في الفترة الراهنة، وهم يمتشقون سلاحهم بمباهاة مقيتة تدفعهم إلى عدم احترام المواطنين، بل التعرّض بوقاحة غير معهودة للناس مهما كان عمرهم أو مكانتهم الاجتماعية أو الدينية أو العلمية، كما يتبادل أولئك المراهقون المعنيون بحماية الناس إطلاق النار لمجرد أي خلاف بسيط فيما بينهم، دون أدنى إحساس بمشاعر المارة أو السيارات وأمانهم، حتى بات معظمنا يخشى المرور على الحواجز أو من أماكن وجودهم وما أكثرها للأسف.

أيضاً، انتشرت بشكل مخيف ورهيب حالات الخطف المُرعبة التي تعرّض ويتعرّض لها كثيرون، لاسيما الفتيات الصغيرات، دون ترك أيّ أثر أو معلومة تقود الأهل للخاطفين، لأنهم في الغالب من العاملين في شبكات الدعارة التي تستغل أولئك الفتيات في تجارة وجدت في ظروفنا الراهنة الفضاء الرحب لازدهارها وانتشارها انتشاراً مفضوحاً ومُقززاً، إضافة إلى حالات خطف الأطفال والاعتداء عليهم جنسياً ثمّ رميهم جثة هامدة أمام بيوت ذويهم، أو في أفضل الحالات المطالبة بفدية تصل إلى أرقام خيالية، مما يضطر الأهل لتأمين تلك المبالغ بأية وسيلة حتى يُنقذوا أولادهم الذين إن عادوا سيكونون معطوبين جسدياً ونفسياً وبحاجة ماسّة للعلاج الذي بات مُكلفاً تكلفة مرعبة قد تدفع الأهل إلى إهمال الأطفال، مما يُشكل لهم مستقبلاً أمراضاً وعُقداً نفسية من الصعب والشّاق الشفاء منها.

إن هذا الواقع المُمِضَّ والرهيب شكّل ويُشكّل برمّته عائقاً كبيراً وفظيعاً للحياة الطبيعية والمزدهرة سواء للفرد أو الدولة، لأنه جعل الناس جميعاً يقعون إما تحت وابل العمليات القتالية وتبعاتها المُدمّرة والمُميتة، وإما تحت لظى حالات الخطف والسلب والنهب والسطو المسلح أو القنص والقتل لغايات ومآرب شخصية بعيدة كل البعد عن مسارب الأزمة السورية، وبالتالي وقوع الجميع تحت نير فقدان الأمن والأمان، في ظل غياب السلطة المعنية بتوفيرهما وفق مقتضيات ما نصّت عليه القوانين المعمول بها، تلك السلطة التي تراخت حتى تكاد تتلاشى نهائياً في وقت يفرض عليها مُضاعفة عملها من أجل حماية المواطنين من جميع أولئك اللصوص والمارقين وقُطّاع الطرق، بحكم ما فرضه الدستور من وجوب حماية أمن المواطنين وأمانهم وكرامتهم، فهل من مُستجيب يا رجال الأمن والقانون…؟

العدد 1140 - 22/01/2025