بين الخبز والشعر

لم أعد أتذكّر أين قرأت هذه الأبيات، ولم أعد أدري لمن، لكنها استوقفتني، وأفاقت عندي من الجراح بعضاً غافياتٍ، وبعضاً يصعب أن تغفو، ولكن من المرجّح أنّها لابن الرّومي المتوفّى عام 283ه/896م كما يروي صاحب يتيمة الدّهر.
عرضتُ على الخبازِ نحو المبرِّد
وكُتْباً حساناً للخليلِ بنِ أحمدِ
وأنشدتُهُ شعرَ الكميتِ وجرول
وغنَّيتُهُ لحنَ الغريضِ ومعبَدِ
ورؤيا ابن سيرينَ وخطَّ ابنِ مقلةٍ
وتوحيدَ جَهْمٍ بعدَ فقهِ محمدِ
فلم يُغنِ عنّي كلُّ ما قد ذكرتُه
 سوى درهمٍ ناولتُهُ كانَ في يدي
وفي رواية أخرى ينضاف البيت هذا:
فما نفعَتْني دونَ أن قلتُ هاكَها
مدورةً بيضاً تطنُّ على اليدِ
يحفل تاريخ الأدب بالشّخصيّات الطّريفة، ولا يكاد يخلو مدوّن من مدوّناته من مقطوعةٍ شعريّةٍ تروي قصّة من قصص الظرفاء أو تُنبئ أخرى عن موقف مفارق يدعو إلى النظر أو إعادة القراءة، وكم حفلت دواوين الشعراء بالأبيات المفردة التي ذهبت مثلاً كبيت الحطيئة:
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يعدَمْ جَوازِيَه
 لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَه وَالناسِ
ورغم قيميّة البيت إلا أنّ صاحبه لم يكن قيمياً كما عُهد من سيرته الذاتية، وتلك السيرة – باعتقادنا- يحكمها النزوع الفردي المغاير للسّائد من الشعر والشعراء في عصر تمّ فيه توظيف الشعر في صالح البنية العليا التي لم تكن تعترف على اليومي والمعيش والمتخيل الفردي والذي يروي ضمناً عن متخيّل آخر هو (المتخيّل الجمعي).
غير أنّ المفصح عنه ولاسيّما في الطور الأول من دولة الخلافة الراشدية، وما كانت بدولة إلا على المجاز الذي نطلقه نحن اليوم على واقع هو أقرب إلى أن يكون توحيد القبائل تحت سلطة قبيلة مركزية هي (قريش). وقريش تلك انتزعت من شقيقاتها الجاهليات اعترافاً بحكم الدعوة الإسلامية التي انطلقت من رحابها في المكان وبالإنسان.
والأبيات التي عرضنا لها لشاعر يستوي غياب اسمه مع حضوره في هذا المقام، لا من حيث تراجع المستوى الفني لشعره وحسب، إنما لأن الموقف الذي يفصح عنه الشاعر يجعله في موقع الاعتراض على مرحلة سوسيوبوليتيكية قابلة للامتداد نحو مراحل أخرى ما دام (السياسي) أو (الأيديولوجي) أو (الثيولوجي) هو نفسه ولو عبر العصور بأسماء جديدة وألوان يشوبها (المتشابه) ويفضي إليها (المحكم).
فالأعلام الذين ذكرهم الشاعر معهودون لدى القارئ أو المستمع، وهم من الطّبقة الأولى من اللغويين، كأبي العباس المبرِّد (898م) ممثل مذهب البصرة وصاحب كتاب (الكامل) الذي عدّه ابن خلدون أحد الكتب الأربعة لأمّات الكتب العربيّة: (وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أنّ أصول هذا الفنّ (الأدب) وأركانه أربعة دواوين، وهي (أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرِّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع وفروع عنها).
والخليل بن أحمد الفراهيدي مؤسّس البحث النحوي، وأستاذ سيبويه، ومكتشف علم العروض، وصاحب أول تفكير معجمي (العين).
وأما المادة الثانية التي يسوقها الشاعر دالاً بها على امتهان المعرفة وأصحابها إذا لم تقترن بمصالح الطبقة السائدة في الحكم والإدارة، هي من فئة أخرى غير الشعراء وغير النحاة واللغويين، هي طبقة رواة الحديث، ونعني ابن سيرين (الطبقة الثانية) ولكنه من الطبقة الأولى في تعبير الرؤيا (728م)، وأضاف إليه الفقه على أنّه العلم بالدين، وهو تمكين المسلم من علوم اللغة والدين في آنٍ مشترك، وجهم بن صفوان (745م) كان يقول مع المرجئة: (الإيمان محله القلب)، وامتد إلى القول: (إن كلام الله حادث).
ثم ينتقل إلى نسق ثالث هو الشعر والغناء، وقد عرض لشاعرين يفوق أحدهما الآخر بعيداً، فالكميت من شعراء الطبقة الأولى في العصر الأموي، وهو شاعر معترض على السلطة الأموية، وقد أسّس لمذهب في الشعر السياسي يقوم على الحجاج الأيديولوجي، توفي عام 744م.
أمّا جرول فكان شاعراً وحسب، وقد ذكره هنا لإكمال نسق الشّعراء…. ولم ينسَ صاحب المقطوعة أن ربط بين الشعر والغناء. والغناء -هنا- وسيلة شافعة ليس للشعر وإنما للمعتفي (طالب المعروف)، فابن معبد من فئة اللحن والموسيقا، ليكمل به الشّاعر المنظومة الجامعة بين علوم مختلفة لتؤدي الشفاعة – لكنها لم تفعل- إنما الذي فعل هو (الدرهم).
ولكن ما الدرهم؟ إنه القيمة الموازية الكفيلة بالحدّ الأدنى للحياة.
لا أعتقد أنّ الشاعر -أي شاعر- وصل إلى حوار مع خباز أو حمَّاص أو فوال أو حلوانيّ بشكل مباشر، ولكن الذي أراده الشاعر في عصر سابق، هو ما نريده نحن اليوم، لا كشعراء وحسب وإنّما كنقاد وروائيين وجيولوجيين وبوليتيكيين وكيميائيين ورياضيين.
والرياضيون الذين نعنيهم هم أصحاب العلم التجريبي أو الرياضة العقلية. أما الرياضيون (النطاطون الفطاطون) فهم في عيشة راضية، راضون منعمون، فقد تجد واحداً منهم لم يكتسب من علوم العصر حتى العناوين… تجد رصيده أضعاف من قام بزراعة مئات من الهكتارات أو طبع بضعة من الكتب وعشرات من الأبحاث ومئات من المقالات. وقد تجد هذا وذاك في موقع الاحتياج….إنه عصر غريب، إنه العصر (العولميّ) الذي أحال الوجود البشري إلى سلعٍ تكتسب أهميتها من (السوق) وهذه السوق، هو الذي صاغها وحدد معاييرها وروائز الرواج والكساد فيها.
ومن الواضح المضني أن الكاتب أو الشاعر أو الناقد أو المؤلّف اليوم في محنتين:
محنته أمام المشروع الوطني، ويتجلى هذا في قدرته على تثوير المجتمع (بالمعنى العلمي لا بالشكل التنظيمي). وبتعبيرٍ آخر يبدأ دوره نقيضاً لدور الثقافة السلفية بأشكالها كلّها، وأخصّ هنا (ثقافة الأصوليات) التي تنبعث من جديد بأدوات الرأسمالية الأوربية وهي تحتضر. ولا يمكن للكاتب أو شركائه الآخرين أن يقف تحت شعار التعقلُن – في الوسط أو في منتصف المفارق، إنّما لا بد أن ينحاز مقاتلاً لا مهادناً أروقة العصور الوسطى.
أمّا المحنة الثانية فهي محنته أمام نفسه ، وأعني بهذه المحنة قدرته على تجاوز ذاته وإعادة هيكلة الذات بما تقتضيه طبيعة العقل النقدي الذي يراجع ما تراكم، ويفكك ما تراكب، وينزع اللاهوت عن الناسوت، والقداسة عن الرموز والأفكار، لتغدو كلّها من سياق التاريخ، والسياق ذاك من طبيعته أن يقبل التجاوز كما قبل المتقدّم عليه أن يتجاوزه نفسه.
وكثيراً ما يشكو (مبدعو) اليوم من مؤسّسات الدولة قلّة الاهتمام وعدم الرعاية… قد يكون هذا صحيحاً صحة نسبيّة، ولكن الأصح هو تطارح السؤال الاستقرائي المستمر، ماذا قدّمنا؟ هل يرقى (المقدّم) إلى المستوى الذي تتطلبه دواعي التقدم والبناء؟ أم أنّ مدعينا معجبون بذواتهم إلى درجة الامتثال، فتغدو الإبداعات الأولى عندهم كالإبداعات الأولى عند أجدادهم نموذجاً واحداً قابلاً للقياس عليه دون اعتبار لأيّ طورٍ زماني أو خلاف مكاني. وتعزيزاً لهذا نذكّر بما أورده المفكر محمد أركون في كتابه (الإسلام أخلاق وسياسة) أنّ الانتفاضة الإسلامية في الجزائر 1992 عندما حاصر الجيش مسلحيها رفعوا المصاحف على حراب بنادقهم، تذكيراً بما فعله جيش معاوية في صفين.. يبدو أنّها عقلية واحدة لم تقبل أي طارئ يفصل بينها وبين الزمن، فبحسبانها النموذج الأول وهو النهائي المرتبط بشعائر (المقدس) لا بتحولات التاريخ أو منطق الحياة.
وإذا كان المثقف أو الأديب قد هُمّش ولا سيما في مرحلة ما بعد الاستقلالات الوطنية بعد 1945 من قبل النظم السياسية السائدة على المستوى العربي دون استثناء، فإن المثقف نفسه ارتضى لنفسه التهميش ولم يدرك أين تكون معركته (نستثني الإشكاليين منهم). فالمعركة لم تكن يوماً مع السلطة السائدة، إنما هي مع الثقافة والعقائد التي أنتجت تلك السلطات. ومن هنا نثمّن عالياً تجربة الشاعر المفكر أدونيس في أطروحته 1971(الثابت والمتحول). ونثمن عالياً مشروع حسين مروة في مصنّفه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية 1978)، إذ تاخم عن قربٍ الحصون التي تتمترس حولها الظلاميّة الإسلاميّة في سعيٍ منها لاستعادة الموروث من الأقبية المظلمة التي احتكرتها على مدى قرون. وفي السّياق نفسه نقر بالاعتراف للمفكر طيب تيزيني في مشروع رؤية للفكر العربي الإسلامي وما يزال المشروع قائماً.
وكذلك كانت تجربة محمد أركون رائدة في التعامل مع النصوص المقدسة، ومن بعده العُروي والجابري، ولا يفوتنا التنويه بما قدمه جورج طرابيشي في سجاله حول إسلام القرآن وإسلام الحديث. والأسماء نوعيّة لكنها لم تعمم ما عندها، ولعلّ انحسار هؤلاء في حيز – النخبة- والنخبيّة هو اهتمام الوسط العام من المثقفين بشؤون الأدب المحلي والإنتاجات الابداعية المسطحة (شعر، قصة، نقد) وينضاف إليه تعميم العقل المدرسي.
ومن طبائع الأشياء ألا يقبل الكاتب (الدعوة الاحتياطية) كالجندي عندما تتعرض البلاد للخطر، وقد كان نزار قباني قد دعا هذه الدعوة في مجلة (الأسبوع العربي 1973م) بُعيد الحرب مباشرة، فالشاعر تبقى تصوراته منفعلة بالحدث، بينما يكون المفكر قد انتهى دوره قُبيل أيّة حرب وطنية أو أزمة تمرّ بها البلاد. فالأفكار ليست بذوراً موسمية، بل هي تعايش مستمر بين الواقع والعقل، ومن التعايش إلى التواصل والتفاصل، من دون اكتساب أي حد من حدود الاستعلاء أو التقديس.
فالشاعر الذي وقف أمام الخباز – بصرف النظر عن عيانيّة القصّة- أثار قضية التهميش من دون تسميتها. ويبدو جليّاً نكداً حضورها القديم المتجدد، لقد أذكرني بنفسي عندما حزمت حقائبي إلى الصحراء الكبرى على مدى اثني عشر عاماً حتى لا أقف أمام الخباز كما وقف الشاعر نفسه. والوقفةُ أمام الخباز أسهل من الوقوف أمام تجار الأسمنت المسلّح، وكلاهما أسهل من الوقوف المذلّ أمام الأبناء عندما لا تستطيع تلبية احتياجاتهم.
ف (هل غادرَ الشعراءُ منْ متردَّمِ)؟ وهل أدركت المؤسسات العلميّة أنّها متوهمة إن كان حملة الأقلام مستلبي الإرادة أمام إرادة الحاجة… أم أنّ المتنبي مازال يهمس في آذانهم (الضمير هنا قابل للتعميم):
صحبَ الناسُ قبلَنا ذا الزمانا
 وعناهُمْ منْ أمرِهِ ما عنانا
كلَّما أنبتَ الزمانُ قناة
 ركَّبَ المرءُ في القناةِ سِنانا

بين الخبز والشعر

 

 

لم أعد أتذكّر أين قرأت هذه الأبيات، ولم أعد أدري لمن، لكنها استوقفتني، وأفاقت عندي من الجراح بعضاً غافياتٍ، وبعضاً يصعب أن تغفو، ولكن من المرجّح أنّها لابن الرّومي المتوفّى عام 283ه/896م كما يروي صاحب يتيمة الدّهر.

عرضتُ على الخبازِ نحو المبرِّد

وكُتْباً حساناً للخليلِ بنِ أحمدِ

وأنشدتُهُ شعرَ الكميتِ وجرول

وغنَّيتُهُ لحنَ الغريضِ ومعبَدِ

ورؤيا ابن سيرينَ وخطَّ ابنِ مقلةٍ

وتوحيدَ جَهْمٍ بعدَ فقهِ محمدِ

فلم يُغنِ عنّي كلُّ ما قد ذكرتُه

 سوى درهمٍ ناولتُهُ كانَ في يدي

وفي رواية أخرى ينضاف البيت هذا:

فما نفعَتْني دونَ أن قلتُ هاكَها

مدورةً بيضاً تطنُّ على اليدِ

يحفل تاريخ الأدب بالشّخصيّات الطّريفة، ولا يكاد يخلو مدوّن من مدوّناته من مقطوعةٍ شعريّةٍ تروي قصّة من قصص الظرفاء أو تُنبئ أخرى عن موقف مفارق يدعو إلى النظر أو إعادة القراءة، وكم حفلت دواوين الشعراء بالأبيات المفردة التي ذهبت مثلاً كبيت الحطيئة:

مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يعدَمْ جَوازِيَه

 لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَه وَالناسِ

ورغم قيميّة البيت إلا أنّ صاحبه لم يكن قيمياً كما عُهد من سيرته الذاتية، وتلك السيرة – باعتقادنا- يحكمها النزوع الفردي المغاير للسّائد من الشعر والشعراء في عصر تمّ فيه توظيف الشعر في صالح البنية العليا التي لم تكن تعترف على اليومي والمعيش والمتخيل الفردي والذي يروي ضمناً عن متخيّل آخر هو (المتخيّل الجمعي).

غير أنّ المفصح عنه ولاسيّما في الطور الأول من دولة الخلافة الراشدية، وما كانت بدولة إلا على المجاز الذي نطلقه نحن اليوم على واقع هو أقرب إلى أن يكون توحيد القبائل تحت سلطة قبيلة مركزية هي (قريش). وقريش تلك انتزعت من شقيقاتها الجاهليات اعترافاً بحكم الدعوة الإسلامية التي انطلقت من رحابها في المكان وبالإنسان.

والأبيات التي عرضنا لها لشاعر يستوي غياب اسمه مع حضوره في هذا المقام، لا من حيث تراجع المستوى الفني لشعره وحسب، إنما لأن الموقف الذي يفصح عنه الشاعر يجعله في موقع الاعتراض على مرحلة سوسيوبوليتيكية قابلة للامتداد نحو مراحل أخرى ما دام (السياسي) أو (الأيديولوجي) أو (الثيولوجي) هو نفسه ولو عبر العصور بأسماء جديدة وألوان يشوبها (المتشابه) ويفضي إليها (المحكم).

فالأعلام الذين ذكرهم الشاعر معهودون لدى القارئ أو المستمع، وهم من الطّبقة الأولى من اللغويين، كأبي العباس المبرِّد (898م) ممثل مذهب البصرة وصاحب كتاب (الكامل) الذي عدّه ابن خلدون أحد الكتب الأربعة لأمّات الكتب العربيّة: (وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أنّ أصول هذا الفنّ (الأدب) وأركانه أربعة دواوين، وهي (أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرِّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع وفروع عنها).

والخليل بن أحمد الفراهيدي مؤسّس البحث النحوي، وأستاذ سيبويه، ومكتشف علم العروض، وصاحب أول تفكير معجمي (العين).

وأما المادة الثانية التي يسوقها الشاعر دالاً بها على امتهان المعرفة وأصحابها إذا لم تقترن بمصالح الطبقة السائدة في الحكم والإدارة، هي من فئة أخرى غير الشعراء وغير النحاة واللغويين، هي طبقة رواة الحديث، ونعني ابن سيرين (الطبقة الثانية) ولكنه من الطبقة الأولى في تعبير الرؤيا (728م)، وأضاف إليه الفقه على أنّه العلم بالدين، وهو تمكين المسلم من علوم اللغة والدين في آنٍ مشترك، وجهم بن صفوان (745م) كان يقول مع المرجئة: (الإيمان محله القلب)، وامتد إلى القول: (إن كلام الله حادث).

ثم ينتقل إلى نسق ثالث هو الشعر والغناء، وقد عرض لشاعرين يفوق أحدهما الآخر بعيداً، فالكميت من شعراء الطبقة الأولى في العصر الأموي، وهو شاعر معترض على السلطة الأموية، وقد أسّس لمذهب في الشعر السياسي يقوم على الحجاج الأيديولوجي، توفي عام 744م.

أمّا جرول فكان شاعراً وحسب، وقد ذكره هنا لإكمال نسق الشّعراء…. ولم ينسَ صاحب المقطوعة أن ربط بين الشعر والغناء. والغناء -هنا- وسيلة شافعة ليس للشعر وإنما للمعتفي (طالب المعروف)، فابن معبد من فئة اللحن والموسيقا، ليكمل به الشّاعر المنظومة الجامعة بين علوم مختلفة لتؤدي الشفاعة – لكنها لم تفعل- إنما الذي فعل هو (الدرهم).

ولكن ما الدرهم؟ إنه القيمة الموازية الكفيلة بالحدّ الأدنى للحياة.

لا أعتقد أنّ الشاعر -أي شاعر- وصل إلى حوار مع خباز أو حمَّاص أو فوال أو حلوانيّ بشكل مباشر، ولكن الذي أراده الشاعر في عصر سابق، هو ما نريده نحن اليوم، لا كشعراء وحسب وإنّما كنقاد وروائيين وجيولوجيين وبوليتيكيين وكيميائيين ورياضيين.

والرياضيون الذين نعنيهم هم أصحاب العلم التجريبي أو الرياضة العقلية. أما الرياضيون (النطاطون الفطاطون) فهم في عيشة راضية، راضون منعمون، فقد تجد واحداً منهم لم يكتسب من علوم العصر حتى العناوين… تجد رصيده أضعاف من قام بزراعة مئات من الهكتارات أو طبع بضعة من الكتب وعشرات من الأبحاث ومئات من المقالات. وقد تجد هذا وذاك في موقع الاحتياج….إنه عصر غريب، إنه العصر (العولميّ) الذي أحال الوجود البشري إلى سلعٍ تكتسب أهميتها من (السوق) وهذه السوق، هو الذي صاغها وحدد معاييرها وروائز الرواج والكساد فيها.

ومن الواضح المضني أن الكاتب أو الشاعر أو الناقد أو المؤلّف اليوم في محنتين:

محنته أمام المشروع الوطني، ويتجلى هذا في قدرته على تثوير المجتمع (بالمعنى العلمي لا بالشكل التنظيمي). وبتعبيرٍ آخر يبدأ دوره نقيضاً لدور الثقافة السلفية بأشكالها كلّها، وأخصّ هنا (ثقافة الأصوليات) التي تنبعث من جديد بأدوات الرأسمالية الأوربية وهي تحتضر. ولا يمكن للكاتب أو شركائه الآخرين أن يقف تحت شعار التعقلُن – في الوسط أو في منتصف المفارق، إنّما لا بد أن ينحاز مقاتلاً لا مهادناً أروقة العصور الوسطى.

أمّا المحنة الثانية فهي محنته أمام نفسه ، وأعني بهذه المحنة قدرته على تجاوز ذاته وإعادة هيكلة الذات بما تقتضيه طبيعة العقل النقدي الذي يراجع ما تراكم، ويفكك ما تراكب، وينزع اللاهوت عن الناسوت، والقداسة عن الرموز والأفكار، لتغدو كلّها من سياق التاريخ، والسياق ذاك من طبيعته أن يقبل التجاوز كما قبل المتقدّم عليه أن يتجاوزه نفسه.

وكثيراً ما يشكو (مبدعو) اليوم من مؤسّسات الدولة قلّة الاهتمام وعدم الرعاية… قد يكون هذا صحيحاً صحة نسبيّة، ولكن الأصح هو تطارح السؤال الاستقرائي المستمر، ماذا قدّمنا؟ هل يرقى (المقدّم) إلى المستوى الذي تتطلبه دواعي التقدم والبناء؟ أم أنّ مدعينا معجبون بذواتهم إلى درجة الامتثال، فتغدو الإبداعات الأولى عندهم كالإبداعات الأولى عند أجدادهم نموذجاً واحداً قابلاً للقياس عليه دون اعتبار لأيّ طورٍ زماني أو خلاف مكاني. وتعزيزاً لهذا نذكّر بما أورده المفكر محمد أركون في كتابه (الإسلام أخلاق وسياسة) أنّ الانتفاضة الإسلامية في الجزائر 1992 عندما حاصر الجيش مسلحيها رفعوا المصاحف على حراب بنادقهم، تذكيراً بما فعله جيش معاوية في صفين.. يبدو أنّها عقلية واحدة لم تقبل أي طارئ يفصل بينها وبين الزمن، فبحسبانها النموذج الأول وهو النهائي المرتبط بشعائر (المقدس) لا بتحولات التاريخ أو منطق الحياة.

وإذا كان المثقف أو الأديب قد هُمّش ولا سيما في مرحلة ما بعد الاستقلالات الوطنية بعد 1945 من قبل النظم السياسية السائدة على المستوى العربي دون استثناء، فإن المثقف نفسه ارتضى لنفسه التهميش ولم يدرك أين تكون معركته (نستثني الإشكاليين منهم). فالمعركة لم تكن يوماً مع السلطة السائدة، إنما هي مع الثقافة والعقائد التي أنتجت تلك السلطات. ومن هنا نثمّن عالياً تجربة الشاعر المفكر أدونيس في أطروحته 1971(الثابت والمتحول). ونثمن عالياً مشروع حسين مروة في مصنّفه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية 1978)، إذ تاخم عن قربٍ الحصون التي تتمترس حولها الظلاميّة الإسلاميّة في سعيٍ منها لاستعادة الموروث من الأقبية المظلمة التي احتكرتها على مدى قرون. وفي السّياق نفسه نقر بالاعتراف للمفكر طيب تيزيني في مشروع رؤية للفكر العربي الإسلامي وما يزال المشروع قائماً.

وكذلك كانت تجربة محمد أركون رائدة في التعامل مع النصوص المقدسة، ومن بعده العُروي والجابري، ولا يفوتنا التنويه بما قدمه جورج طرابيشي في سجاله حول إسلام القرآن وإسلام الحديث. والأسماء نوعيّة لكنها لم تعمم ما عندها، ولعلّ انحسار هؤلاء في حيز – النخبة- والنخبيّة هو اهتمام الوسط العام من المثقفين بشؤون الأدب المحلي والإنتاجات الابداعية المسطحة (شعر، قصة، نقد) وينضاف إليه تعميم العقل المدرسي.

ومن طبائع الأشياء ألا يقبل الكاتب (الدعوة الاحتياطية) كالجندي عندما تتعرض البلاد للخطر، وقد كان نزار قباني قد دعا هذه الدعوة في مجلة (الأسبوع العربي 1973م) بُعيد الحرب مباشرة، فالشاعر تبقى تصوراته منفعلة بالحدث، بينما يكون المفكر قد انتهى دوره قُبيل أيّة حرب وطنية أو أزمة تمرّ بها البلاد. فالأفكار ليست بذوراً موسمية، بل هي تعايش مستمر بين الواقع والعقل، ومن التعايش إلى التواصل والتفاصل، من دون اكتساب أي حد من حدود الاستعلاء أو التقديس.

فالشاعر الذي وقف أمام الخباز – بصرف النظر عن عيانيّة القصّة- أثار قضية التهميش من دون تسميتها. ويبدو جليّاً نكداً حضورها القديم المتجدد، لقد أذكرني بنفسي عندما حزمت حقائبي إلى الصحراء الكبرى على مدى اثني عشر عاماً حتى لا أقف أمام الخباز كما وقف الشاعر نفسه. والوقفةُ أمام الخباز أسهل من الوقوف أمام تجار الأسمنت المسلّح، وكلاهما أسهل من الوقوف المذلّ أمام الأبناء عندما لا تستطيع تلبية احتياجاتهم.

ف (هل غادرَ الشعراءُ منْ متردَّمِ)؟ وهل أدركت المؤسسات العلميّة أنّها متوهمة إن كان حملة الأقلام مستلبي الإرادة أمام إرادة الحاجة… أم أنّ المتنبي مازال يهمس في آذانهم (الضمير هنا قابل للتعميم):

صحبَ الناسُ قبلَنا ذا الزمانا

 وعناهُمْ منْ أمرِهِ ما عنانا

كلَّما أنبتَ الزمانُ قناة

 ركَّبَ المرءُ في القناةِ سِنانا

العدد 1140 - 22/01/2025