الثروة المهدورة بالاقتصاد السوري خسائر سوء التخطيط أكبر من حجم الكارثة الحالية

تغيب عن الاقتصاد السوري الخطط الواضحة، ويفتقد إلى المسار التنموي المحدد.  وطوال نصف قرن من الزمن، لم يتمكن السوريون من حسم موقفهم الاقتصادي، وتحديد على أي الجانبين يريدون الاتكاء. وظل اقتصادنا حبيس التوجهات المختلفة، للمسؤولين الذين تعاقبوا على صناعة القرار الاقتصادي، والممسكين بالملفات الساخنة والحساسة فيه. هذه من أكثر نقاط الضعف التي انعكست سلبيا على الاقتصاد السوري، الذي يسير بلا توجه، وبلا بوصلة، وبلا موقف. فالتنمية المشتتة الموجودة، هي حصيلة العقود الماضية من العمل. والخيبات الكبيرة التي لحقت بالمواطن، هي حصاد ما وضعته الحكومات المتعاقبة من خطط وبرامج تنموية. وليس من قبيل المصادفة البحتة، أن تفرز الأزمة الراهنة سوء التخطيط الذي عانى منه اقتصادنا في السنوات السابقة، معامل أُسست بلا دراسات جدوى، وشركات هدرت آلاتها بلا جودة في المنتج، وسواعد تدربت فلم تجد لها مكاناً خلف الآلات، ومؤسسات شُيّدت وفقاً لأرقى النورمات العالمية وأفضل أنواع التصميم المعماري، لكنها بلا مضمون، ولم تؤدِّ دورها.  وبدلاً من تشكيل قوى بشرية كفأة وماهرة، ظهرت قلاع من قوى الفساد، عميقة الجذور، ويصعب خلخلة بناها الراسخة. بمعنى، أن حجم الكوارث التي تسبب فيها سوء التخطيط، أكبر بكثير، مما خلفه الصراع الدامي حتى الأن من خسائر اقتصادية في سورية.

في تاريخنا مع الخطط الخمسية، ثمة ما يشبه النكتة، تتعلق بالعبارات المكررة والرتيبة التي لايمكن النظر إليها بحيادية مطلقة. سنوات طويلة لم تتغير الديباجات، والمقدمات، وعجز كبير في إيجاد شيء جديد، مقولات مناسبة، قضايا تمس المواطن. إلى جانب العقم الواضح في خلق منجزات يمكن الحديث عنها. هل يمكن تخيل أن يتكرر خطاب المسؤول من مناسبة إلى أخرى إلى حد التطابق؟ هل من المعقول أن نسمع  القضايا المطلبية العمالية والطلابية والفلاحية ذاتها طيلة ربع قرن؟ من منا لم يسمع عن مطالبة العمال بتعديل سعر الوجبة الغذائية؟ من منا لم يسمع عن تكرار دعم الفلاح بمستلزمات الإنتاج؟ من منا لم يسمع عن زيادة نسبة قبول خريجي المعاهد المتوسطة بالجامعات؟ هذه بعض القضايا التي تستحق أن تدخل موسوعة غينيس السورية، لجهة طول مدة المطالبة بها وعدم النظر إليها بجدية. 

السؤال الأن هل نعتقد أننا قادرون على الدخول من الباب الواسع لتحسين الوضع الاقتصادي المتردي، وللنهوض بالواقع، بهذه الخطط الهزيلة؟

قطعا، فالمنجز الوطني على الصعيد الاقتصادي، لا يعبر عن حجم الإمكانات والطموحات في آن واحد، وما هدرته الحكومات المتعاقبة من سنين يفوق في خطورته ما هدر من ثروات، فعامل الزمن الذي لا وزن له لدينا لا يمكن تعويضه، هو الثروة المهدورة بلا منازع، والمجال الذي لم تتمكن خطة خمسية من الاقتراب منه، ولم تلامسه خطة مالية لحكومة. الزمن الذي نستغرقه لوضع خطة، أو إنتاج سلعة، أو اتخاذ قرار، لايتناسب مع السرعة الهائلة التي يتطور بها الاقتصاد العالمي، ولهذا نأتي متأخرين جداً. وعلى سبيل المثال، أقر نهج اقتصاد السوق الاجتماعي عام 2005 دون مقدمات، ودون تهيئة المناخ المناسب للانتقال، ومنذ ذلك التاريخ، ولغاية إقرار الدستور السوري الجديد 2012 والمناقشات تتركز حول ماهية هذا النهج، وتدرس مدى قدرته على تلبية احتياجات اقتصادنا، للإجابة عن تساؤل: هل هو النموذج الاقتصادي المناسب الأن؟ نحو سبع سنوات هدرت، لنكتشف فيما بعد أننا أخطأنا النهج، وعدنا ثانية إلى المربع الأول. هذا وغيره كثير، أكبر هدر للموارد، وتضييع للفرص المتاحة، وإجحاف كبير بحق اقتصادنا المتخلف، وتضاف إليه سمة جديدة حاليا، الاقتصاد المتهالك والمنهك بامتياز.

هدر الموارد على اختلافها نهجنا المنظم، لم ننتفع من الميزات النسبية لمنتجاتنا، ولم نطور إنتاجنا بالشكل الذي يحقق الطموح، ويضعنا في مصاف الاقتصادات المتطورة، وما زلنا رغم أزمتنا القاهرة، نجرب ونبحث عن التجريب، نسعى لوضع ما يمكن أن يكون خطة تحمي اقتصادنا، وتعزز من حضوره وصموده، لكننا بالمحصلة نرسم فشلاً تلو أخر.

العدد 1140 - 22/01/2025