الشابي من أصداء الذات… إلى قراءة الكون!

على الرغم من تراكمات الشعر العربي على مدى خمسة عشر قرناً إلا أن الشعرية العربية والشعراء العرب متناسخون من بعضهم يكاد آخرهم يماثل أولهم، والحد الجامع ثقافة سكونية ناجزة تفضي إلى بنية مغلقة لا تعترف بالنزوع الفردي، ولا ينبغي لها ذلك.

وحتى لا يبدو تعميمنا شاملاً كلياً، فإننا نعثر في هذا التاريخ الممتد على ظاهرات تجاوزت تلك البنية وفرضت إيقاعاً آخر مختلفاً. والشواهد عديدة بدءاً من طرفة بن العبد، مروراً بالصعاليك، وصولاً إلى شاعرٍ ناقد كأبي نواس، وشاعر يطرح مشروعه كأبي تمام (الشعر في مستوى الفلسفة). وهذا وذلك أفضيا إلى مشروعَيْن مختلفَيْ الصيغة متفقَيْ التوجه، حمل الأول الشابي أبا القاسم

(1909-1934) مؤداه: (السؤال الوجودي يقصي الجواب الميتافيزيقي). وفي النصف الثاني من القرن العشرين انبثق أدونيس من عمق التراث الإسلامي شعراً ونثراً، لينقلب عليه من خلال مشروع شامل، يبدأ بالمراجعة الناقدة وإعادة بناء القصيدة العربية بما تقتضيه طبيعة المثاقفة للعصر. وعصرنا عصر الإيديولوجيات وعصر غروبها وعصر النزاع بين (الفردي) و(العولمي).

ومن أراد أن يقف عند أبي القاسم الشابي من خلال (أغاني الحياة) فسيكتشف لا محالة أنه أمام تجربة غير معهودة. فليس في الديوان مديح ولا هجاء ولا زهد ولا تصوف ولا غزل (كالمعهود)، إنما سيقرأ نموذجين من الشعر: الأول مطولات تحكمها تساؤلات وجودية (إرادة الحياة، الغاب، الثعبان المقدس، في فجاج الأحلام، يا رفيقي، إلى الله، إلى الطاغية، صلوات، في هيكل الحب، حديث المقبرة)، والنموذج الثاني مقطوعات شعرية عديدة قائمة على المعاناة والتأسي وهي أقرب ما تكون إلى نص سردي لكنها موزونةٌ ومقفّاة.

لقد بدأ الشابي حياته – كغيره من أبناء جيله – في المعاهد الدينية، وفي تلك المعاهد تأسست لغته، لكن قلقه الوجودي كان أكبر من الناجز القار في تلك المعاهد. ومن هنا غابت من شعره فكرة الإيمان التقليدي أو غُيّبت على الأقوى. والتغيّيب كان لصالح فكرة أخرى هي وحدة الوجود. وكان عليه أن يمضي في ديوانه باحثاً عن (الحرية) كشرط طبيعي في الحياة البشرية ولعل في قصيدته (إلى) الطاغية أساساً لهذا الشرط، يقول:

ألا أيُّها الظالمُ المستبدُّ

حبيبُ الظلامِ، عدوُ الحياةْ

تأمَّل! هنالكَ أنَّى حصدْتَ

رؤوسَ الورى، وزهورَ الأملْ

وروَّيْتَ بالدمِ قلبَ الترابِ

وأشربتَهُ الدمعَ حتى ثَمِلْ

سيجرفُكَ السيلُ سيلُ الدماءِ

ويأكلُكَ العاصفُ المشتعلْ

ولا تكاد تخلو أي من مطولاته أو من مقطوعاته من فكرة (الأمل) أو (التفاؤل) بمستقبل الإنسان، على الرغم مما تجد في شعريته من آلام ومعاناة. واللافت الجميل أنه لا يقر عند أحلام فردية، إنما يميل إلى التعميم، على أن التعميم هو مستقبل الشعوب المضطهدة، إما من الجبرية الغيبية أو من الجبرية السياسية، وقد ذهب بيته المعروف:

إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة

فلابدَّ أن يستجيبَ القدرْ

مثلاً في مرحلة ما بعد الشابي، فقد مات الرجل عام ،1934 لكن الأحداث السياسية في المشرق والمغرب العربيين قد ازدادت مأسوية بعد معاهدات الدول الاستعمارية مع الحكومات العربية الضعيفة (1936)، والتي كانت تهيئ للحرب العالمية الثانية. ومن عمق الأحداث بدأ الشابي يعيش من جديد بعد ،1945 إذ خرجت الدول الكولونيالية مهزوزة من الحرب، وبدأت من جانب آخر أطروحات (الثورية) القادمة من الشرق الأوربي كنقيض لادعاءات الغرب الاستعماري في الحريات.

وتبدو مطولة الشابي (إرادة الحياة) المصدّرة بالبيت السابق نشيداً عميق الدلالة كانت وما تزال العفوية الشعبية التي تغنت به. فالشابي أدار المطولة على هيئة خطاب متبادل بين البشري والطبيعة.والخطابان يصنعان قصة الحياة، وكأن الشاعر هو الطرف الثالث الذي يدّعي الحيادية، وإدعاء الحيادية تقانة طريفة – هنا – في صناعة القصيدة.. فمن الأعمومة التي أطلقها: إذا الشعب… إلى ارتباط الحرية بمقولات الطبيعة:

كذلكَ قالَتْ ليَ الكائناتُ

وحدَّثَني روحُها المستترْ

ودمدمَتِ الريحُ بينَ الفجاجِ

وفوق الجبال وتحت الشجر:

(إذا ما طمِحتُ إلى غايةٍ

ركبتُ المنى، ونسيتُ الحذر

وقالَتْ ليَ الأرضُ – لما سألتُ:

(أيا أمُّ هلْ تكرهينَ البشرْ؟):

هوَ الكونُ حيٌّ يحبُّ الحياةَ

ويحتقرُ الميِّتَ المندثرْ

فويلٌ لمنْ لم تشْقه الحياةُ

منْ لعنةِ العدمِ المنتصرْ

فاجتزاء البيت (المقدمة) في مرحلة المد الشعبي كان مسوغاً، فلم تكن الجماهير الباحثة عن التحرر الوطني تريد أن تدخل مع الشابي في مداخيله مع فلسفة الإنسان والطبيعة، إنما أرادت أن توظف البيت في الشحن العاطفي المتفائل، على الرغم مما أبدته السلفية الغيبية من اعتراض على رأي الشابي في مسألة الإنسان والقدر… لكن المشكلة اليوم تبدو أخطر… فأدعياء (الربيع العربي) لفظاً، الربيع الأصولي حقيقة، حاولوا استثمار ثقافة خصمهم الأيديولوجي في ادعاءاتهم المضطربة من خلال انتزاع الرأي من سياقه الشعري والتاريخي ليدلل على المرحلة الجديدة التي تمت فيها المصالحة بين خصمين تاريخيين هما: الأصولية الإسلامية، والاستعمار الأوربي. فالسلالة الفكرية لمقولة الشابي (إذا الشعب….) منقطعة الأواصر عن الأيديولوجية الإسلاموية الممتدة باتجاه المحطات المضيئة في التراث العربي، كابن عربي والسهروردي والفارابي وابن رشد، حتى تصل النهضة فتعقد الأواصر مع ثورة الطبقة المتوسطة في مصر ،1919 ومع بيان سلطان باشا الأطرش ،1925 عندما أعلن عن الثورة ضد المستعمر.

فإرادة الشعوب حاربها الطرفان المذكوران ولا يزالان عند المحاربة تلك… لكن المنظومة الإعلامية توظف في خدمة التحالف ما يمكن لها توظيفه. ومن هنا بات لزاماً على ذوي الاتجاه الوطني العلماني التحرري أن يستعيدوا مقولاتهم من خصومهم استعادة الدراية، ضمن مشروع ثقافي يربط جماليات الماضي بضرائر الحاضر. فيصلون بين الصعاليك في موقفهم من النظام القبلي، وبين الشابي وأدونيس في موقفهما من القبلية النفطية وارتباطها بالمشروع الإمبريالي الذي بدأ يحتضر.

ففي منتصف القرن العشرين وبُعيد الاستقلال وجه الشاعر الكبير بدوي الجبل رسالة شعرية مطولة إلى إبراهيم هنانو (المناضل الوطني)، وكأنه يكمل رسالة الشابي في اعتماد الشعب منطلقاً لصناعة الحياة، جاء فيها:

حرنوا والشعوبُ في موكبِ السقِ

ومنْ شيمةِ الهجينِ الحرانُ

أنا أبكي لكلِّ قيدٍ فأبكي

لقريضي تغلُّهُ الأوزانُ

لم أضقْ بالهمومِ قلباً وهلْ

ضاقَ بشتى عطورِهِ البستانُ

لا يهينُ الشعوبَ إلاّ رضاها

رضيَ الناسُ بالهوانِ فهانوا

أنتَ أقوى منَ المنايا وأقوى

منْ أذى الدهرِ فاستفقْ يا هنانو

والمطولة هذه دعوة لمواجهة طرفي الاستبداد، السلطة المحلية والاستعمار العالمي. والمناخ هذا تراجع في فترة السبعينيات من القرن الماضي، لتتقدم المشروعية الثورية أو المشروعية الاشتراكية. لكنه اليوم يتقدم أولاً، وذلك لانبثاق التحالف الجديد الذي ذكرناه بين طرفَيْ الاستبداد: الأصولية الإسلامية والرأسمالية الصناعية، وهي في طور الاحتضار أو الاختناق.

ومما نجده لافتاً مشكلاً تركز الشابي حول ذاته تركزاً وجودياً، متسائلاً يُفضي به دائماً إلى غرابة الشاعر في العالم، وإلى صورة العالم العميقة التي تحتاج إلى تأمل أعمق، ولا ينتهي به إلى الإقرار بالإيمان، إنما ينتهي به إلى غير قرار. لكنه يُقر بألوهية الكون، فثمة تبادل بين الذات والعالم، وقد أفصح عن هذا في مقطوعة شعرية تحت عنوان (قلب الشاعر):

كلُّ ما هبَّ وما دبَّ، وما

نامَ، أو حامَ على هذا الوجودِ

كلُّها تحيا بقلبي حرَّةً

غضةَ السحرِ، كأطفالِ الخلودِ

ها هنا في قلبيَ الرحبِ العميق

يرقصُ الموتُ وأطيافُ الوجودِ

ها هنا في كلِّ آنٍ تمّحي

صورُ الدنيا، وتبدو منْ جديدِ

فالعالم مهما يكن متعدداً غنياً يبقَ سديماً لا حياة فيه ولا روح، ما لم يلتحم بقلب الشاعر. فالعالم الطبيعي – على جماله وعلى غناه – يفقد خصائصه ما لم يكن الإنسان المتأمل يراه بقلب متسائل وعينين شكاكتين.

ولأنه آمن بقدرات الإنسان آمن بقدرات الشعوب على إدراك مبتغاها في الوجود النوعي الحر، وقد لجأ إلى الأساطير المعروفة في التاريخ الإنساني ليستثمرها في إغناء شعريته وعالمه وحاضره الاجتماعي، بالتفاؤل المنبثق من عمق المأساة. فقد نقل أسطورة (بروميثوس) شعراً، وبروميسيوس يوناني عملاقٌ خان مجتمع الآلهة لصالح الإنسان، فحمل النار المقدسة إلى البشر فعاقبه الإله زيوس، ثم حرره هيركليس،  وأحالها إلى خطاب فردي يواجه القدر السماوي والآخر السلطوي في سعيٍ منه لتكريس فكرة (الحرية) كشرط ضروري للحياة الأدمية، يقول:

سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ

كالنسرِ فوقَ القمةِ الشمَّاءِ

لا أرمقُ الظلَّ الكئيبَ ولا أرى

ما في قرارِ الهوَّةِ السوداءِ

وأسيرُ في دنيا المشاعرِ حالماً

غَرِداً وتلكَ سعادةُ الشعراءِ

أُصغي لموسيقا الحياةِ ووحيِها

وأُذيبُ روحَ الكونِ في إنشائي

من جاشَ بالوحيِ المقدسِ قلبُهُ

لم يحتفلْ بفداحة الأعباءِ

رحم الله الشابي، ما يزال قلبه شاعراً حياً يحيا مع العصر، وما يزال قُرَّاء الشابي يجدون في قلبه نبعاً لا حساب لعطائه لليلٍ أو نهار.

العدد 1140 - 22/01/2025