لماذا كان ماركس محقّاً؟! (24)
تُرجعُ الماركسيةُ كلَّ شيء إلى الاقتصاد. وهي شكل من أشكال الجبرية الاقتصادية. فالفنون والدين والسياسة والقانون والحرب والتطور التاريخي إنما هي جميعاً من النتائج القسرية للاقتصاد. والتعدّد الواقعي لأوجه العلاقات بين البشر يُضحّى به لصالح تصور تاريخي مبسّط بشدّة. وبتركيزه المبالغ فيه على الاقتصاد، كان ماركس بكل بساطة الصورة السالبة للنظام الرأسمالي الذي حاربه.
ولهذا فإن عالم أفكاره لا يتوافق مع وجهة نظر المجتمعات الحديثة المتعددة الألوان والمذاهب، التي تعي أن الطيف الواسع من الخبرات المتراكمة تاريخياً لا يمكن حصره بطريقة تفكير واحدة جامدة.
لم يعد القول بأنَّ كلَّ شيءٍ يتعلّق بالاقتصاد حكراً على أحد. وهذا في الواقع أمر جليّ جداً يحقّ لنا معه أن نتساءل كيف يمكن لأحدٍ أن يشكّ في ذلك؟ فقبل أن نفعل أي شيء، علينا أن نأكل ونشرب ونلبس ونسكن في بيتٍ من أربعة جدران وسقف، هذا إذا كنا نعيش في شيفيلد وليس في صامُوا وقد كتب ماركس في (العقيدة الألمانية) إن أوّل عمل تاريخي هو إنتاج ما يلزم لإشباع احتياجاتنا المادّية. وبعد ذلك، يمكن أن نتعلّم العزف على آلة موسيقية وأن نؤلّف شعراً عن الغزل أو أن نعيد دهان جدران بيتنا. العمل هو أساس الحضارة، ولا وجود لمدنيّةٍ من دون إنتاجٍ مادّي.
ومع هذا، فالماركسية لا ترضى بذلك. وتقول أطروحتُها إن الإنتاج المادي ليس أساس الحضارة التي لا
تقوم من دونه فحسب، وانما هو أيضاً ما يحدّد في النهاية العلاقات في هذه الحضارة. هناك فرق بين القول بأن القلم أو الحاسوب أداة ضرورية لكتابة رواية، والقول بأن أداة الكتابة هي التي تحدّد، لحدٍّ ما، مضمون الرواية. لا يمكن استيعاب القول الثاني ببساطة، حتى وإن قال بذلك أيضاً مفكّرون معادون للماركسية.فالفيلسوف جون غراي، الذي لا يمكن عدُّه من بين مناصري الماركسية، يقول إن النشاط الاقتصادي في مجتمعات السوق الحر لا يختلف عن جميع مناحي الحياة الاجتماعية الأخرى فحسب، بل إنه يطبع كلَّ شيء في المجتمع بطابعه وحتى أنه يسيطر عليه أحياناً. وما يجعلُه جون غراي سارياً في مجتمعات السوق الحر فقط، يعمّمه ماركس على تاريخ الإنسانية جمعاء.
يعتبر النقاد أن نظريّة ماركس الأعمّ والأشمل نوع من الاختزال. فهي تُرجع في الواقع كلَّ شيء إلى العامل
الواحد الوحيد. كيف يمكن لهذا التنوع العجيب في تاريخ البشرية، الذي لا يمكن الإحاطة به، أن يُحشر في هذا القميص الضيّق القسري؟ ألا تؤثّر في مجرى التاريخ، بوضوح، قوى وعواملُ أخرى عديدة يستحيل ردُّها جميعاً إلى مبدأ ثابت واحد؟ هنا يمكن أن نتساءل عن مدى هذه التعدّدية بالفعل. ألا يوجد أبداً، في أوضاعٍ تاريخية ما، عاملٌ واحد أهمّ من العوامل الأخرى؟ من الصعب أن نتصوّر ذلك. من الممكن أن نتشاجر إلى ما لانهاية حول أسباب قيام الثورة الفرنسية، لكن لا أحد يعتقد أنها اندلعت لأن الإفراط في استهلاك الأجبان قد أدى إلى ظهور تغيرات كيميائية حيويّة في أدمغة الفرنسيين. ولن تدّعي سوى أقليّة مشوشة ذهنياً بشدّة، أن – اندلاع الثورة الفرنسية يعود إلى برج الجدي بمساعدة برج السرطان. لا أحد يُنكر أن بعض العوامل التاريخية أهم من عوامل أخرى. ورغم ذلك يمكننا تبنّي وجهة نظر تعدّدية، على الأقل لحدٍّ مّا. ودون أن نُنكر أن كلّ واقعة تاريخية هامة هي نتيجة قوى عديدةٍ، إلا أن ذلك لا يمنعنا من القول إن هذه القوى أو تلك لم تتمتع بالأهمية ذاتها.
كان فريدرك إنجلز تعدّدياً بهذا المعنى تماماً. وقد رفض رفضاً قاطعاً أن يكونا، هو وماركس، قد قصدا في يوم من الأيام أن العوامل الاقتصادية هي القوى الوحيدة التي تحدد مجرى التاريخ. كان ذلك سيكون (جملة لا مغزى لها، مجرّدة، وغير معقولة). ومع ذلك، لا يذهب أحد مهما كان تعدّديَّ المذهب إلى حد الادّعاء بأن جميع العوامل هي على قدرٍ واحد من الأهمية في كلِّ واقعة معيَّنة. كلُّ واحد يؤمن ببعض التراتبية، حتى أنصار مذهب المساواة الأكثر حماساً. ويؤمن كل واحد تقريبا حتى بتراتبية ثابتة ومطلقة.
فلربّما لا نجد إنساناً واحداً يعتقد أن دغدغة الجوعانين أفضلُ من إطعامهم. ولا أحد يدّعي بأن طول أظافر ملك إنكلترا كارل الأول عام 1634 لعب في الحرب الأهلية الإنكليزية دوراً أكبر من دور الدين. كان عندي أكثر من سبب لأن أغطّس رأسك لمدة عشرين دقيقة تحت الماء ساديّة، فضول علمي، القميص المزهَّر البشع الذي كنت تلبسه، وعدم وجود سوى فيلم وثائقي مملّ في التلفاز، ولكن السبب الأهم والمسيطر كان الإسطبل مع الأحصنة الحائزة على جوائز التي وهبتني إياها في وصيّتك. لماذا لا يكون لبعض الوقائع الرسمية أيضاً دوافع ذات أولوية؟
تأليف: تيري إيغلتون