بين العقلنة والعلمنة… مآلات الدين في العالم الحديث

كان الدين، لزمن طويل مضى، قد تمكن من شغل الناس وحفز حركة التاريخ وصوغ المعنى النهائي للوجود الإنساني، وذلك بالإجابة عن السؤالين الخالدين: من أين أتينا؟ وإلى أين نصير؟ وهو المعنى الذي كفل للإنسان الصمود في مواجهة ما يعانيه من ضغوط وتحديات طالما عصفت بوجوده كالموت، أو شوهت حضوره كالألم والفشل والظلم.. إلخ، فقدم له السند والعون في مواجهتها.

وانطلقت سيرورة عقلنة للوجود التي فرضها نضوج التاريخ البشري، على نحو منح العقل الإنساني حرية التجول في مناحي الوجود، مقدماً إسهاماته وتصوراته. لقد كان ممكناً، بل ومطلوباً، تحت ضغط الحداثة، أن ينزاح الدين من المجال العام إلى ضمير الفرد المؤمن، وأن يتنازل عن ادعاءاته بالقدرة على تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات، والوصاية على المعارف والعلوم والمكتشفات، ليقتصر دوره على الإلهام الروحي والضبط الأخلاقي.

وتفضي العقلانية، إلى علمنة السياسة، كظاهرة تتجذر في الإصلاح البروتستانتي، وتستدعي المثل التنويرية قلب النظم السياسية، ضمن عمليات البحث عن أفضل الآليات (العقلانية) لإدارة الدولة كمجال محايد لممارسة السلطة وتبادلها. ولكنها لا تقود حتماً إلى علمنة الوجود، إذ لم يكن مطلوباً ولا مرغوباً فيه أن يفقد الدين كل قيمته أو يعلن موته بفعل نمو العقلانية، كما بشرت فلسفة الدين الوضعية، لأن حضور العقل لا يفترض بالضرورة غياب الإيمان. بل إن العقلانية الحديثة نفسها هي التي منحت الإيمان سيفاً جديداً يحارب به منطقها المادي الخالص ونزعتها الوضعية المتطرفة، ويكتسب من خلاله أهمية مضاعفة، لأنه، أي الإيمان، هو الوحيد القادر على انتزاع بذرة الخوف والقلق التي نبتت في قلب العالم الحديث (العقلاني)، والتي انعكست في شعور عميق لدى الإنسان بالنسبية وعدم اليقين، على رغم كل الممكنات والأبنية التي وفرتها الحداثة وجعلت حياته أكثر راحة، وأكثر أمناً في ما يتعلق بجسده.

وأما إذا انطلقنا من العبارة الأساسية، فنحن أمام سيرورة علمنة وجودية، تتنامى في مجتمعات الما بعد (ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة… الخ)، بفعل الثورات العلمية وارتقاء الأدوات التكنولوجية والنظم الإدارية التي تنتهجها تلك المجتمعات في إدارة العلاقة بين أطرافها ومكوناتها، وهي سيرورة تؤدي تدريجياً، من دون إعلان عن ذلك، وأحياناً من دون وعي به، إلى تفكيك الدين في الوجدان الفردي، ونفيه عن الوجود الاجتماعي، فلا تنحيه فقط عن السياسة، بل تحرمه أيضاً من دوره في صوغ نظم القيم السائدة، والتقاليد الاجتماعية التي طالما عبرت عن نفسها في قوانين الزواج والطلاق، وأنماط العيش المختلفة.

هذه السيرورة تبدو منطقية تاريخياً في السياق الغربي، كتتمة لسيرورة العلمانية السياسية في دوله، ونتاج موضوعي لتنامي العقلنة في مجتمعاته. أما المفارقة الكبرى فتكمن في وجود سيرورة كهذه في المجتمعات العربية الإسلامية، لا تمثل تتمة لعلمانية سياسية غير قائمة أصلاً في دولها، بل على العكس ترتبط بنزوع تيارات فيها، إلى استمرار التوظيف السياسي للإسلام، ومحاولة قسر المجتمعات الحاضنة له على العيش ضمن نمط حياة تقليدية يرسم معالمها النص المؤسس له، أو توحي به التجربة التاريخية للرعيل الأول من المؤمنين به، حتى يسهل تطبيق الشريعة / القوانين الدينية عليها.

جوهر المفارقة إذاً هو أن العلمنة الوجودية إنما هي نتاج لنقص العقلانية العربية الإسلامية، وليس لتمددها أو تجاوزها، فالجماعات التي ترفض الفصل بين النظام السياسي كمجال عام، والإيمان الديني كمجال خاص، هي نفسها التي تتجاوز هذا المستوى الضروري من العلمنة (السياسي)، إلى المستوى الأعلى منها (الوجودي). ففي طريقها إلى مناوأة نظم الحكم القائمة، التي تراها مجرد طواغيت تسعى إلى سرقة الحاكمية الإلهية، وتعطيل الشريعة الإسلامية، تستحل تلك الحركات جماع القيم الأخلاقية التي تصوغ جوهر (الروحانية الدينية)، وتحث المؤمن على محبة الآخرين والتعاون معهم والبر بهم.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنهم يتجاوزون أحكام الشريعة نفسها التي يدعون إلى تطبيقها في العديد من الأحيان، ليس فقط عبر الإرهاب الذي يقتل أبرياء تنهى جلُّ الأديان عن إراقة دمائهم، حتى أن الإسلام يعتبر قتل نفس واحدة بمثابة قتل للناس جميعاً، أي للإنسانية برمتها، بل وأيضاً في التشريعات التي تخص حرمة المال والعرض، حيث يتم التساهل في سرقة غير المنضوين تحت لواء تلك الحركات، بحجة أن مالهم حرام، وأن سرقته تحلّ ما دامت تصب في دعم جهودهم لاستعادة الدين وتطبيق الشريعة. كما يتم التساهل في الممارسات الجنسية تحت لافتات واهية، تسمح بالزواج السريع والطلاق الأسرع، كما تسمح بإعادة تدوير النساء/ الزوجات بين أعضائها ضمن ما يسمونه جهاد النكاح، والذي هو نوع من الزنى الصريح، أي من الكبائر التي ترتكبها الجماعات الأكثر تطرفاً كداعش، ربما عن وعي، كطريقة لجذب الأتباع، وتجنيد المنافقين، خصوصاً في المجتمعات المحافظة التي تعاني انغلاقات في العلاقة بين الجنسين، أو الفقيرة التي تعاني مشكلات الزواج المتأخر.

«الحياة»

العدد 1140 - 22/01/2025