المبتسرون.. مجدداً
في تسعينيات القرن الماضي نشرت الكاتبة المصرية أروى صالح كتابها (المبتسرون- دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية) الذي تروي فيه شهادتها عن تجربتها السياسية ضمن الحركة الطلابية المصرية في سبعينيات القرن الماضي، وهي شهادة شجاعة نقدياً، تمرّر فيها الكاتبة مشرح النقد على هذه التجربة، وتقترب بصدق وبانفعال عال من جوهر مشاكل جيل بالكامل، وهي بالتالي مشاكل وطن ومستقبل هذا الوطن.
من السطور الأولى للعمل، تكشف الكاتبة وتحلل مأزق المسار وتتالي الأحداث التي أدت الى انعدام وجود قضية وطنية يناضل من أجلها في الماضي، ثم ما تلا ذلك من هجر هذه القضية والانفضاض عنها.
كان شعار (بدنا نحارب!) شعاراً عظيماً رفعته الحركة الطلابية المصرية كرد فعل على جرح ،1967 ثم جاءت حرب تشرين لتدمل وتنظف هذا الجرح العربي، ولكن المفاجأة كانت في هبوط طائرة السادات في القدس لتلغي نصر تشرين وتعطي إسرائيل ما لم تستطع أن تحصل عليه سابقاً في الحرب.
ولكي تكتمل مأساة زيارة السادات، جاءت تحولات اقتصاد السوق والخصخصة والانفتاح التي أدت إلى انسحاق الطبقات الكادحة وظهور أصحاب رؤوس الاموال كنتيجة لبؤس هذه الطبقات صاحبة الكرامة الوطنية واستغلالها، وبالتالي هزيمة الحلم الاشتراكي في مصر ومبادئ الحرية والعدل والمساواة.
تروي أروى صالح كيف انتقل العديد من قيادات الحركة الطلابية ومثقفيها ومناضليها من موقع الحركة الثورية وصفوفها إلى مواقع الخصم _النظام المصري، بإرادتهم الكاملة والواعية وتخلوا عن ماضيهم الثوري، وبالتالي أصبحوا جزءاً من هذا النظام الفاسد ومتسلقيه، وبالتالي حاجزاً وعبئاً على الأجيال الجدد والحركة الثورية بشكل عام (إن المثقفين المهزومين يعشقون تحطيم الأصنام من كل نوع : ناجحون، مشهورون، مبدعون، يحبون ذلك إلى حد أن العجز عنه في حالة من الحالات (ولتكن عملاً فنياً لا مأخذ عليه) يصيبهم بالإحباط، إن البرهنة على أن (الكل باطل) احتياج لا ينتهي).
حسناً، أولئك مبتسرو أروى صالح، ولكن نحن أيضاً لدينا مبتسرونا الذين اختاروا هذا النهج بإرادتهم.
ففي فترة ما يسمى (الربيع العربي) شاهدنا العديد من المفكرين اليساريين امتطوا ظهر الموجة الجديدة، وحاولوا أن يكونوا منظريها وآباءها الثوريين، ولكن مهلاً دعونا لا ننكر تاريخهم النضالي في الوقوف مع التنظيمات الإخوانية في سوربة ضد الدولة، ثم الوقوف والدعوة لإسقاط النظام العراقي بواسطة الاحتلال الامريكي، أولئك اليساريون والثوريون الذين بدلوا ولاءهم وإيديولوجيتهم الماركسية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فأصبحوا من دعاة الليبرالية والعولمة ورفاقاً لأمراء النفط والمال.
مع بداية الأزمة السورية وقفوا بجانب الجماعات المسلحة منظّرين ولكن بعيداً عن الخطر والمعارك، وهم يشربون فنجان قهوتهم خارج سورية بدؤوا بالصراخ وإنتاج دررهم الثورية عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ولكن الطامة الكبرى كانت في ظهور تنطيمات مغرقة في الظلامية (النصرة وداعش) ووقوف مناضلينا وتحالفهم معها، وجلّ ما فعلوه هو أنهم غيروا تحليلهم الماركسي الطبقي سابقاً وبدلوه إلى فتح عظيم في التحليل والتقسيم الطائفي.
(ولعل السذاجة في هذا الحلم تثير الآن الابتسام -ربما من أبناء جيلنا أكثر من أي أحد آخر- ولكن ما هو أقسى كثيراً، فيما أظن، حظ أجيال لم يتح لها أبداً أن تعرف أحلامًا كبيرة، ومن أجل هذا كتبت عن حلمنا المجهض، لأنه لم يكن سراباً كله كما يلذ لكثيرين منا الآن أن يصفوه ليذلوا ماضيهم -إمعاناً في رد الفعل على غرورهم السابق فيما أحسب. ولكنه كان تاريخاً أيضاً تبقى منه أشياء حقيقية، غريب أن نهدرها لأننا نحن هُزمنا بسهولة أهانتنا).
هكذا تعبر أروى صالح عن تجربتها النضالية _ انتصاراتها وانكساراتها، وكان طبيعياً لمن يقرأ الكتاب أن يتوقع النهاية الحزينة للكاتبة_ انتحرت ملقية بنفسها من الطابق العاشر، ربما كان الانتحار هروباً من الفشل أو وفاء لقيم ومبادئ استمرت أروى مؤمنة بها في زمن قبيح.
هذا الصدق مع النفس مع أروى لم نجده مع هؤلاء المناضلين الذين خانوا مبادئهم التي كانوا يفاخرون بها، وإن كانوا هم أيضاً قد انتحروا في نظر الجماهير والشعوب بما أقدموا عليه من خيانة حين باعوا وطنهم وتاريخه ومستقبله.