«زنديق» للفلسطيني ميشيل خليفة في افتتاح مهرجان الفيلم الملتزم بالعاصمة الجزائرية
ضمن فعاليات الدورة الثانية ل(مهرجان الفيلم الملتزم)، التي احتضنتها العاصمة الجزائرية الأسبوع الماضي، عرض فيلم (زنديق) للمخرج ميشيل خليفة (رائد السينما الفلسطينية المستقلة)، في حفل الافتتاح، بعد أن ارتأت الهيئة المشرفة أن تكون فلسطين هي (ضيف الشرف) في هذه الدورة.
يطرح صاحب (عرس الجليل) (عام 1987) في فيلمه هذا، الذي يؤدي فيه الفنان محمد البكري الشخصية الرئيسية باسم (ميم)، سؤالاً مغايراً لما يطرح دائماً على اللاجئين الفلسطينيين الذين رحلوا أو أجبروا على الرحيل عن ديارهم عام النكبة (1948)، ليكون موجهاً إلى من بقوا في الديار: (لماذا بقيتم؟ لماذا لم ترحلوا؟ أريد أن اعرف ماذا جرى معكم؟).
تدور أحداث الفيلم على مدى أربع وعشرين ساعة حافلة بالتوترات والأحداث التي لا تزال تنعكس في راهن الفلسطينيين منذ النكبة إلى اليوم على خلفية عودة مخرج فلسطيني يعيش في أوربا إلى مدينة رام الله، لتصوير فيلم يوثق للنكبة. ومن أول الفيلم تتكشف سريعاً، علاقة بطل الفيلم (ميم) – قام بأداء الدور الممثل محمد بكري – المتوترة وغير المضبوطة بشكل من الأشكال مع حبيبته. وهي العلاقة التي أتت تفصيلاً من اشتباك ذاتي بين (ميم) (الفرد) والمحيط: التاريخ، المكان، المجتمع، التغرب، السياسة، الانتماء، ف(ميم) مخرج الأفلام الوثائقية، يضطر إلى المجيء إلى الناصرة لتقديم العزاء لموت عمه. لحظة الموت هذه، التي يبدأ بها الفيلم، ستنفض اللثام عن ملامح عديدة من شخصية (ميم) الجدلية، فهو غير مؤمن بالله، وكافر بالعائلة كذلك، مغترب أي منفي طوعاً، كما أنه كافر بالتقاليد وكافر أيضاً بعواطفه، أي أنه (الزنديق) الذي يتبدى لنا بوضوح منذ المشاهد الأولى من الفيلم. إلا أن علاقته بالتاريخ لا يمكن أن تتسم بالرفض أو التسليم المطلق، لأن التاريخ يتمدد وينعكس في سلوكيات أجيال لاحقة، وهو يتخطى كونه مكتسباً معرفياً ليصير محفزاً ومحرضاً ومستولداً لمزايا بشرية بشعة، كالحقد أو الغضب أو العنف أو العمى الإنساني والأنانية والجشع. إلا أن الأسئلة التي تتمخض عنه بوصفه كمّاً من أحداث مترابطة ومتلاحقة، تتكثف في الفيلم، فتأتي في محور الحدث الأهم: (نكبة 1948). ويصبح توثيق النكبة جزءاً من سياق سينمائي داخل علبة الفيلم نفسه، فكاميرا (ميم) ستقابل بعض الأشخاص المسنين الذين يحكون مأساتهم وعلاقاتهم بالمكان (السابق)، أي ما بات (كليشيه) كل مهتم بالقضية الفلسطينية، فيكون التوثيق لعبة سينمائية، أو (سينما) داخل السينما. لكن هذا التوثيق سيبدو في الفيلم وكأنه عرضي، ديكور، وخاص جداً، وذاتي، بمعنى نأيه عن التوظيف الدعائي والسياسي، وجعله يؤدي وظيفة (نوستالجية) وجمالية لها علاقة ببطل الفيلم وحده.
الأم وغواية الأسئلة ..
من هنا، ستكون الأسئلة التي يطرحها (ميم) على أمه المُستحضرة أكثر وقعاً على الجمهور، لأنها ستكون أسئلة مباشرة، غير متوارية في لعبة مونتاج الفيلم المستقل. فبعد أن يسترجع بعض ذكرياته مع والدته، يلح عليها في سؤاله (لماذا بقيتم؟). كما يوجه لها سؤالاً معكوساً عن سبب بقائهم في فلسطين، (لماذا لم تنزحوا؟).
سؤالٌ يرتسم في كادر خارج الشعارات والخطابيات العاطفية واللوم، فهنا يقوم صاحب (الذاكرة الخصبة) (عام 1980)، بسؤال الضحية عن سبب بقائها لتجلد كل هذه السنوات، بدلاً من أسئلة اعتدناها في الكثير من الأفلام، والتي يدور أغلبها في فلك لوم الفلسطيني الذي ترك أرضه ليعاني في بلاد الشتات. وهو سؤال عقلاني بالمقام الأول، وأساسي، ولا بد منه بعد كل تجارب الفلسطينيين السابقة، إلا أنه سؤال مهذب جداً وسياسي بعيد عن الدراما، يطرح (النزوح) بدلاً من (الهرب) أو ترك الأرض، أو حفظ الأرواح. فشخصية العمل المحورية (ميم)، هي من سيقرأ الواقع ويُزج فيه سواء وافقت على صيغته أم رفضتها، وبالتالي فإن السؤال يتقاطع مع شخصية البطل المغترب، المقيم في أوربا، الآتي لينظر المدينة بوصفها (إكزوتيك) ومادة خصبة لعمل فني.
وتمثل الكثير من مشاهد الفيلم إسقاطات على الواقع بكل ما فيه من أبعاد سياسية واجتماعية، بدأت من المشهد الأول للجدار الذي تقيمه (إسرائيل) على أراضي الفلسطينيين، ورحلة البحث عن قبرَيْ والديه في مقبرة الناصرة دون أن يفلح في العثور عليهما، مروراً بالعلاقة الجنسية العابرة مع فتاة يهودية في (إسرائيل)، وعدم إيجاد فندق يسمح له بأن يمضي ليلته فيه هرباً من الثأر. ويبدو أن المخرج أراد لكل مُشاهد أن يتسع خياله ليسقط المشهد على الواقع الذي يريد، في عرض يتخلله عودة البطل إلى مصورته (كاميرته) بحثاً عن مشاهد صورها تؤنس وحدته التي لم يجد سوى سيارته كي يمضي فيها جزءاً من ليلته، بعد أن أُغلقت دونه كل الأبواب حتى منزله الذي حاول العودة إليه في البداية ليجد نفسه مطارداً من عائلة القتيل الذي قتله ابن شقيقه.
ويستحضر صاحب (نشيد الحجر) (عام 1990)، في مشهد يعيد إلى الأذهان تلك المفاتيح التي حملها اللاجئون إلى منازلهم عندما رحلوا أو أجبروا على الرحيل عنها عام ،1948 على أمل العودة إليها بعد أيام.. عندما يعود البطل إلى منزل العائلة المهجور ليجد المفتاح مخبأً أسفل حجر أمام الباب ليدخل إليه.
ويشتمل الفيلم ضمن مشاهده على عرض لواقع عدد من أهالي غزة الذين يتسللون إلى الأراضي المحتلة عام 48 بهدف العمل، أو إحضار أطفال فلسطينيين لاستغلالهم وبيع أعضائهم. ويذكر المشهد بحالة الانقسام التي يعيشها الفلسطينيون عندما سأل البطل أحد الأطفال الذين يلتقي بهم بعد أن يخبره أنه من مخيّم رفح الذي هدمت (إسرائيل) نصفه عن والده فكان الجواب أنه معتقل، ولكن ليس عند (إسرائيل) بل لدى حركة المقاومة الإسلامية حماس.
كما تشكل المرأة عنصراً أساسياً في الفيلم بكل ما يمكن أن تعكسه من مدلولات مثلت فيها الأرض والشعب أحياناً، وأحياناً أخرى المرأة ذاتها، لينتهي الفيلم في مشهد تظهر فيه امرأة برداء أبيض تسير في ماء بحيرة أو نهر، تدعو البطل أن يتبعها فيما كان يصور بها ليضع الكاميرا ويحاول أن يتبعها قبل أن تختفي في الماء.
ويؤكد صاحب (الجواهر الثلاث) (عام 1994)، أنه رغم التشابه إلى حد التطابق بين شخصيته الحقيقية والشخصية التي يقدمها في الفيلم، فإن العمل (ليس سيرة ذاتية، وربما يكون بطله توءمي لكنه لا يشبهني، رغم أن نسبة كبيرة من الأدوات في الفيلم متعلقة بي شخصياً).
ويرى صاحب (الطريق 181) (عام 2004)، أن فيلمه هذا يدعو (إلى التحرر قبل التحرير)، من خلال ما يقدمه من مشاهد لمدينة الناصرة التي تبدو ليلاً مدينة أشباح، إلا من شباب يعتدون على من يمر في أزقتها محاولين الثأر لعملية قتل يكون فيها القاتل ابن شقيق بطل الفيلم.