المصرف المركزي.. سياسات متخبطة واستنزاف كبير

واصلت الليرة السورية التعرض لضغوط كثيرة وشهدت انخفاضاً حاداً في سعر صرفها، إذ كان سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية في 15 آذار 2011 وفقاً لنشرات المركزي 49.89 ليرة، وبلغ في حزيران الماضي (2014) قرابة 165 ليرة سورية أمام الدولار، وتابعت قيمة الليرة السورية الهبوط بسرعة، ففي شهر تشرين الثاني الماضي بلغت 200 ليرة، و210 ليرات في كانون الأول، وفي 2015 وصل الدولار وفق أسعار المركزي السوري إلى عتبة 220 ليرة، وفي الأيام الماضية جرى تداول الدولار فوق مستوى 240ليرة في السوق السوداء، مع الإشارة إلى أنها كانت قد اجتازت حاجز 300 ليرة للدولار سابقاً، أي أن الليرة السورية خسرت أكثر من خمسة أضعاف قيمتها، ومن المرجح أن تواصل الليرة التعرض لضغوط بسبب هبوط إيرادات التصدير لا سيما النفطية بسبب العقوبات الاقتصادية الجائرة، وتوقف الكثير من القطاعات الاقتصادية المنتجة جراء الحرب.

وفي ظل هذه الظروف جهد القائمون على السياسة النقدية السورية لتحقيق ثبات نسبي في سعر صرف الليرة السورية، بغض النظر عن مدى انعكاس ذلك على الاقتصاد الكلي (لجهة  التضخم أو النمو أو البطالة أو التوازن المالي أو النقدي)، لذلك تجلى عدم الانسجام بين القائمين على السياستين النقدية والمالية بشكل واضح، لكن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة واضحة اليوم: هل نجح المصرف المركزي في تقليص الفارق بين السعر الرسمي للدولار وقيمته في السوق السوداء؟! ولماذا استمر تراجع الليرة؟ وهل يتم التدخل من الاحتياطيات النقدية التي راكمها الشعب عبر السنين أم من الحوالات الواردة؟ وهل يعرف المركزي أين تذهب الأموال التي يضخها؟!

لقد تجلى في سياسات المصرف المركزي تجاهله لفكرة أن سعر الصرف هو انعكاس لقوة الاقتصاد ولمدى الثقة بالنظام المصرفي المحلي الذي يعزز الثقة بالعملة المحلية، فسعر الصرف نتيجة لسياسات متبعة وليس هدفاً أو وسيلة لتحقيق هدف. فأدى تخبط السياسات المصرفية إلى إضعاف ثقة المستثمرين والمواطنين، وإلى زيادة التضخم، كما أوحى تخبط القرارات النقدية للمركزي بعدم امتلاكه ما يكفي من القطع الأجنبي، وتجلى تخبط القرارات عدة مرات، فتارة سمح للمصرف التجاري السوري ببيع 5000 دولار شهرياً للأغراض غير التجارية لكنه توقف عن ذلك بعد نحو أسبوعين، مكتشفاً عدم القدرة على سد حاجة السوق والمواطنين الذين فقدوا الثقة بالعملة الوطنية وأمسوا يبحثون عن أي مخرج لتحويل مدخراتهم إلى العملات الأجنبية، مع الإشارة إلى أن شركات الصرافة اليوم لا تبيع المواطنين أكثر من 200 دولار وبعد معاناة كبيرة، وبالتالي فإن الطلب على القطع لا يلبى عن طريق هذه الشركات وإنما من السوق غير النظامي حيث يوجد سعر آخر يزداد كلما ضغطت الأزمة والحرب على سورية.

ومسألة تمويل مستوردات القطاع الخاص بالقطع الأجنبي شاهد أيضاً على القرارات المرتجلة، فأول قرارات الحكومة بعد بدء الأزمة تمثلت بالامتناع الكامل عن تمويل المستوردات، والسبب الذي لم يُخْفِه المعنيون في ذلك الوقت هو الحفاظ على القطع الأجنبي، ثم تراجعت الحكومة عن القرار تدريجياً بضغطٍ من التجار، إلا أن عملية التمويل كانت تنقطع عن التجار لفترات، الأمر الذي دفع التجار للجوء إلى السوق السوداء وإلى المضاربين الذين قاموا برفع أسعار الصرف على مسمع ومرأى البنك المركزي الذي لم يحرك ساكناً، وهو ما أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار السّلع المستوردة، فاتخذ التجار من سياسات المركزي ذريعة لرفع أسعار السلع، ليكون المواطن المفقر هو الضحية الأكبر.

ولم يكتفِ المركزي بذلك، بل أعلن قدرته على تمويل مستوردات التجار بحدود 2-5 ملايين دولار محدداً سعر 162ليرة لذلك، وبارتفاع قدره 10 ليرات، عن سعر الصرف الخاص بتمويل المستوردات الذي كان يتراوح حينئذ بين 150- 152 ليرة، وهذا ما حمل فيي طياته رسالة للمضاربين برفع سعر الدولار المباع للتجار، ما دام أن المركزي قد رفع سعره، ليغدو كلام المركزي عن أن إجراءاته ستخفض سعر الصرف إلى 150 ليرة مجرد نفاق علني.

لقد كان لسياسات المركزي خلال الأزمة دور في تدهور قيمة العملة الوطنية، إذ عملت على زيادة المعروض من الدولار لدى شركات الصرافة عبر جلسات التدخل التي عقدها لبيع القطع، لكن سياسته في ضخ الدولار لم تحقق استقراراً لسعر الصرف، بل سمحت بتسرب الدولار من خزينة الدولة إلى أيدي المضاربين ليستخدموها في المضاربة من جديد حينما يعطيهم المركزي الإشارة للقيام بذلك، فبدا من ذلك وكأن المركزي يستخدم الصرافين للتلاعب بالليرة، وهو ما تجلى بقراره ترك 20% من الحوالات الواردة لشركات الصرافة لتبيعها وفقاً لاحتياجات السوق، وهي تتراوح يومياً ما بين 1.5 و2.5 مليون دولار حسب المركزي، فيما تشير تقديرات مصرفية إلى أنها تصل إلى 7 ملايين دولار يومياً، وهذا ما يشكل شرعنة لعمليات النهب التي تمارسها شركات الصرافة بحق المواطنين.

ومؤخراً أعلن حاكم المصرف المركزي عزمه التدخل في السوق اللبنانية عبر سحب الكتلة النقدية بالليرات السورية المتداولة في لبنان، بما يتيح ضبطا أكثر فعالية لحجم المعروض من الليرات السورية المتداولة في تلك السوق، والتي يجري توظيفها كأداة مباشرة للتأثير سلباً على سعر صرف الليرة السورية، وفق الحاكم، ولكن في ظل الظروف الراهنة المشار إليها سابقاً فإنه من الصعب بالنسبة للمركزي أن يترجم إعلانه على أرض الواقع، فكيف سيتجه إلى الأسواق الخارجية إن لم قادراً على وقف انهيار العملة الوطنية والتصدي للمضاربين بها داخلياً؟ أيضاً أين كانت وسائل الضبط عندما تم تهريب هذه الكميات إلى الخارج؟!

بعد كل ما ذكر من سياسات وقرارات نتوجه إلى المركزي بالسؤال: أما آن الآوان لإعادة النظر بسياساته والاقتناع بأننا لا نستطيع بالمعالجة النقدية منفردة إنهاض الاقتصاد السوري؟

إننا اليوم في حاجة إلى إعادة النظر في مختلف جوانب إدارة السياستين النقدية والمالية، وأن نبحث عن بدائل جديدة للدفاع عن العملة الوطنية، مع اللجوء لاستخدام أدوات جديدة غير التدخل بيعاً للقطع الأجنبي، لأنه بعد أربع سنوات من عمر الأزمة أثبتت هذه السياسات أنها لم ولن تؤدي الهدف منها، بل بالعكس استنزفت جزءاً كبيراً من الاحتياطي النقدي، والتأكيد على أهمية وضوح السياسات واستقراها، يجب أن لا نعمل بمبدأ رد الفعل لأن ذلك انعكس على معيشة المواطن السوري وأدى لتفاقم معدلات الفقر والبطالة والتضخم، إلا إن كانت الحكومة راضية عن ذلك.

وفيما يتعلق بتمويل المستوردات، نرى ضرورة منع استيراد كل السلع والبضائع التي يمكن تصنيعها محلياً بالتزامن مع تشجيع التصدير الذي يساعد في تخفيف الضغط على الليرة، وإن ذلك يتطلب تنسيق القرارات الاقتصادية بين الجهات المعنية كافة، حتى لا نكرر أخطاء سابقة منها تخفيض رسم الإنفاق الاستهلاكي على السيارات والجوالات والسماح باستيراد المولدات الكهربائية وغيرها.

والعمل على توسيع الأنشطة الإنتاجية في الأماكن الآمنة ودعم المنتجين، وتشديد الرقابة على الأسواق والتأكيد على ضرورة اتخاذ الإجراءات الرادعة بحق المضاربين بسعر الصرف في السوق السوداء.

ختاماً إن المخرج لتحسن الوضع الاقتصادي هو إنهاء الحرب والمضيّ قدماً في الحل السياسي إلى النهاية، لأنه لن تقوم قائمة للاقتصاد السوري ولسورية وشعبها مع استمرار الحرب والعنف.

العدد 1140 - 22/01/2025