سورية الجديدة.. خطوات نحو التطور والإصلاح
من أهم الدّعائم في بناء الوطن والدولة هو تحديد معيار القيم والأخلاق التي تربط أفراده بعضهم ببعض، لأنها دعائم لا يمكن الاستغناء عنها في تماسك المجتمع وتقدمه، وفي حال حدوث أي خلل بسيط بقيمة صغيرة من قيم المجتمع يؤدي ذلك إلى انهيار وحدة الأهداف الاجتماعيّة، وبالتالي إلى انهيار ركن أساسي من أركان الدولة والوطن.
واليوم، بعد مرور ست أو سبع سنوات على الأزمة السوريّة، من الطبيعي أن يحدث اهتزاز وانهيار بالمعيار الأخلاقي الّذي كان سائداً في مجتمعنا السّوريّ.
لذلك، ومن أجل المحافظة على وحدة النسيج السوريّ، نحن بحاجة إلى نهج تربوي – تعليمي، وإلى سياسة تربوية جديدة تُبيّن بوضوح قول ألبرت إنشتاين: (النّسبيّة تنطبق على الرّياضيّات وليس على الأخلاقيات).. فما هي الأخلاق والقيم؟!
الأخلاق هي مبادئ الصّواب والغلط الّتي يترعرع عليها الأطفال، كما هي حصيلة للنهج التّربوي الّذي تنهجه كلّ أسرة وكلّ مؤسسة تربوية في مجتمعها التّعليمي، ولكن بنتيجة الأزمات الّتي تعرض لها المجتمع السّوريّ نجد أنّه فقد العديد من القيم الأخلاقية الّتي كانت متأصلة فيه، لذلك ظهرت مبادرات فردية تهدف إلى إعادة إحياء هذه القيم، من خلال تأليف وتصميم نهج تربوي – تعليمي يهدف إلى زرع القيم من خلال طرح طرق واستراتيجيات عملية في شخصيات الأطفال واليافعين، بعيداً كل البعد عن الدين والعقائد الدينية،كما أخذ هذا النهج بعين الاعتبار مراحل النمو الأخلاقي لدى الإنسان وحاجات كل مرحلة على حدة.
عندما يمرّ مجتمع ما بتحدٍّ معيّن أو بأزمة فإنّ الموّجه الأساسي لسلوك النّاس والأفراد يصبح هو الخوف من العقاب، أو بهدف تحقيق المصالح، أو تبرز أخلاقيات التّوافق مع الآخرين لتجنّب العزل والرّفض من قبل الجماعة.
ونتيجة الأزمة الّتي مرّ بها المجتمع السّوريّ وبسبب التّعددية الدينية، تقاعس البعض في تطبيق القوانين المتعلّقة بالأخلاق والقيم وتناقص الخوف من العقاب، وظهرت بقوة أخلاقيات الرفض والقبول المرتبطة بالآخرين، مثال: السّرقة أمر مرفوض، ولكن الطّفل الّذي فقد والديه والتقطته مجموعة من الأشخاص ودرّبته على التّسوّل في الشارع والسّرقة، تصبح هذه قيمة مقبولة بالنسبة له، لأنه ليحافظ على أمانه وليؤمن لقمة عيشه هو بحاجة لأن يسرق، وكذلك الشاب الّذي بحاجة إلى فرصة عمل وإلى دخل مادي، ووجد فرصته ضمن جماعة دينية ما، فهو لكي يحسّن وضعه المادي التزم بهذه الجماعة وقويت لديه القيم التي يتحدثون بها، بالرغم من أنه غير مقتنع بها، ولا مؤمن بها.
أين نحن الآن؟ ولماذا نسمي عصرنا اليوم بعصر اهتزاز القيم أو انحطاطها؟!
نحن لدينا:
* العديد من الألعاب الالكترونية البعيدة كل البعد عن ثقافتنا السّورية وعن مفاهيم التربية، صُنّعت خصيصاً من قبل مؤسسات أجنبية وجرى بيعها في السّوق العربية ونشطت خلال الأزمة في سورية، إذ نرى كل طفل من مختلف البيئات والطوائف يلعب بهذه الألعاب.
* برامج كرتونية مستوردة غزت بقوّة المحطات الفضائية غير المحلية، الّتي يُشاهدها الأطفال دون رقابة الأهل، وكان لها دور كبير في إدخال قيم جديدة على مجتمعنا.
* ظاهرة التّشرد والتّسرب من المدارس التّي ساعدت عصابات الاتجار بالأشخاص على استغلال الطفولة والشبيبة، وعملت على زرع العنف في مجتمعنا، ودعت أطفالاً بعمر 5 و6 سنوات إلى الهروب من المدرسة لشرب السيجارة والحشيشية… الخ.
* غياب الحوار بين أفراد الأسرة الواحدة نتيجة الضغط الّذي يعيشه الآباء.
* غلاء المعيشة وتدني الوضع الاقتصادي للأسرة ساعد على غياب قيم مثل الصدق والأمانة، وحلّ محلها الكذب والنّميمة والغش… الخ.
* التّعصب الديني الّذي أدى إلى التّمسك بالقشور والابتعاد عن جوهر التّعاليم الدينية وأخلاقياتها، وبالتالي تدهورت الأهداف الاجتماعية وتدنت معايير القيم.
ما هو الحلّ؟
نحن بحاجة إلى برنامج تربوي يهدف إلى تعليم القيم، تلك المبادئ الأخلاقية الّتي ترتبط بالواقع الاجتماعيّ والّتي ترتفع عن مستوى المناقشة وتصير ذات دلالة في ذاتها، بحيث تُعبّر عن الكمال السّلوكي أو الحركي.
الهيكل التخطيطي لهذا البرنامج مبني على أسس واستراتيجيات يتم إكسابها إلى المعلّم والطّفل والآباء بآنٍ واحد، تعمل على زرع بذور القيم وفق خطّة زمنية ومعيار ثابت وواضح لكي تصبح هذه القيم عادة متأصلة في الطفل والشاب تمكّنه من مواجهة جميع المواقف والتحديات التي قد تمرّ معه خلال حياته ورحلته التعليمية.
وبذلك، من خلال برنامج تعليم القيم، نكون قد تجاوزنا وسعينا بخطوات ثابتة نحو إبعاد تعليم مادّة التّربية الدّينية في المدارس، وأحللنا محلّها برنامجاً يهدف إلى زرع قيم وعادات الشخصية والتفكير الإيجابي الكفيلة بتنمية جيل منفتح على الآخر ويتقبل الاختلاف، قادر على مواجهة التحديات باستخدام أدوات بناء إيجابية ومسؤولة.
هذا البرنامج موجود وقد جرى إنجازه بنسبة 50%، وقد أثبتت الدّراسة البحثية لهذا البرنامج نجاحه وقبوله من قبل الأسر والعائلات من المجتمع المحلي ومن الأسر المهجرّة، كما لم تراع العينة العشوائية الوضع المادي للأسرة والمدرسة.
لقد نفّذت تجربة برنامج تعليم القيم هذا في إحدى المدارس النموذجية في منطقة قرى الأسد على أطفال في مرحلة التعليم الأساسي لصفوف الحلقة الأولى (من الأول إلى الثّالث) وكانت نتائج البحث ناجحة بدرجة جيد جداً أي بنسبة تزيد عن 85%.
ومن أهم المفردات والمفاهيم المطروحة في برنامج تعليم القيم هذا:
* الصّدق وقول الحقّ دون الخوف من اللّوم والعقاب.
* العطاء بمحبة وصدق ومشاركة الأفراد بعضهم لبعض.
* الغفران والمسامحة والتزام موقف وسلوك إيجابي، بدلاً من السلوك القديم السلبي.
* الوفاء بالوعود والالتزام بالعهود والعقود مهما كانت المغريات قويّة.
* حفظ حقوق الآخرين حتّى ولو لم يطالبوا بها.
* الثّبات على المواقف مهما كانت المصاعب والتّحديّات.
* الشّجاعة والعدل ونصرة الضّعيف والمظلوم.
* المواجهة الإيجابية وعدم استغياب أحد والنّميمة عليه.
* الإصغاء الفعّال والتريث قبل إطلاق أي حكم.
* مفاهيم في التربية الاقتصادية وأصول الاقتصاد المنزلي.
* قبول الآخرين واحترامهم مهما اختلفنا عنهم أو معهم.
* فن التواصل الإيجابي مع الآخر.
يبقى السّؤال الّذي يطرحه قادّة كلّ مجتمع وروّاد التّغيير الاجتماعي: كيف نغرس هذه الأخلاقيات في نفوس الأطفال والمراهقين؟!
من الضّروري أن نؤمن بأنّ الأخلاقيات لا تُغرس بالثّواب والعقاب، بل بالتّعليم والقدوة والمتابعة، بحيث تصبح القيم الأخلاقيّة معتقدات محوريّة راسخة في وعي الإنسان وضميره، لا يستطيع أن يخالفها بل يعيش معها في شعور كامل من الاتزان والاستقرار الدّاخلي لأنها أصبحت عادة متأصلة في شخصيته، ومن الضروري أن نؤكّد أنّ الحب من دون شروط هو منبع الأخلاق، فالأخلاق الكريمة هي أن تُحبّ الآخر لأنه يستحق المحبة ولأنّه إنسان، قد يكون من العائلة أو الحارة أو بائعاً متجوّلاً أو … الخ. وأخيراً إنّ برنامج تعليم القيم موجود وقد لاقى الكثير من التشجيع والقبول من قبل الأفراد والعائلات الذين تمت تجربته عليهم إلا أنه بحاجة إلى دعم، وإلى جهة مسؤولة قادرة على تبنيه ليكون مادّة بديلة عن التّربية الدينية داخل المدارس.