المفاضلة بين الأجناس الأدبية
كثيراً ما يدور الحديث بين المختصين وحتى بين عامة القراء، حول تفضيل جنس أدبي على آخر… ينحاز بعضهم إلى الشعر مثلاً، ويذهب آخرون إلى تفضيل الرواية، وهما الجنسان الأدبيان الأكثر رواجاً وانتشاراً بين القراء حالياً.
فأنصار الشعر يفضلونه لقدرته على الاستجابة السريعة للأحداث، ولتوهج العاطفة فيه، وإمكاناته العالية على التكثيف والإيجاز، إضافة إلى ما يملكه من وزن وانضباط في القواعد النظمية في الشعر القديم، وموسيقا وإيقاع في الشعر الحديث، هذه الخصائص البنيوية جعلت من الشعر فن العرب الأول، حتى أضحى ديوانهم في العصور الماضية (الشعر ديوان العرب). هذا إذا تجاوزنا مؤهلات الشاعر الثقافية والفكرية، وموقعه في مجتمعه بدءاً من أقدم العصور الشعرية عند العرب (الجاهلية)، إذ قاربت مكانة الشاعر تخوم الأنبياء، لما يختزنه الشعراء من قدرة على الكشف والتحليل والتنبؤ بالمستقبل، استناداً إلى ما توفره لهم ثقافتهم وخبراتهم الحياتية، حتى اتهموا بالسحر.
أما أنصار الرواية فمع اعترافهم بأنها فن حديث نسبياً، إذا ما قيست بعمر التجربة الشعرية عند العرب، فيذهبون إلى أنها أصبحت اليوم (ديوان العرب)، وراحت تنافس الشعر لا بل تزيحه عن مكانته الراسخة والرصينة بين جمهور المتلقين على اختلاف مستوياتهم وتذبذب أمزجتهم، لاعتقادهم بأن الرواية أرحب من الشعر وأكثر قدرة على استيعاب مضامين العصر، وتمتلك قابلية للتطور، وتجاوز حدود نظامها. على عكس الشعر الأكثر استقراراً من حيث أشكاله وبناه. فالرواية من أكثر الفنون الأدبية قدرة على تمثيل الواقع والغوص في أعماقه والكشف عن خفاياه وإزاحة الستار عن المسكوت عنه فيه، مما لا يستطيع الشعر أن يقوم به. إضافة إلى مهارات الرواية في شد القرّاء وجذب اهتمامهم لما تحتويه من حبكة فنية، وبناء درامي، وشخصيات متنوعة. وتباين في مستويات اللغة وتعدد في طرائق السرد.
المفاضلة بين الأنواع الأدبية يجب أن تقوم على أساس وظائف الجنس الأدبي، والذي تحدده بنيته التكوينية، فلا مجال لمفاضلة بين الشعر والرواية، لأن وظيفة الرواية تختلف عن وظيفة الشعر، وبالتالي الإمكانات التي تتيحها الرواية لا يستطيع توفيرها الشعر، وكذلك ما يمكن أن يوفره الشعر لا تستطيع تقديمه الرواية.
من الخطأ البين أن نقارن بين جنسين أدبيين مختلفين، حتى وإن تقاربت الأهداف النهائية والغايات لكل منهما. فغاية الأدب، الذي تنتمي الرواية والشعر إليه، إعادة بناء الإنسان، وجعله أكثر سعادة، وتنمية ذوقه الجمالي، وإغناء تجربته، والسمو به إلى عالم القيم الكبرى.. الخير والحق والجمال والحرية والعدالة.
مما لا شك أن أنصار الشعر ولو من حيث الكم أكثر من أنصار الرواية، لما ترسخ بفعل التقادم لدى المتلقين من تجارب، فالموروث الجمعي العربي أميل إلى الشعر منه إلى الرواية، لكن دراسة منصفة لا بد لها أن تأخذ في الحسبان شروط التلقي، واختلاف الذائقة، والمستوى الثقافي للقراء، وعمر الفنَّيْن المقارن بينهما، لأن ازدهار وصيرورة جنس أدبي ما، لا تتوقف فقط على قدراته الذاتية، وإنما أيضاً على ظروف تلقيه، الاجتماعية والتاريخية.
فمعروف أن انتشار الطباعة والصحافة وسهولة التداول من الكتاب المطبوع إلى الشابكة، مع توفر الوقت لدى المتلقي ساعد على ازدهار فن الرواية وانتشارها. ومع هذا فانتشار الرواية لم يأت على حساب انحسار الشعر، فإن كانت القصيدة كأحد الأشكال الممكنة للشعر قد تراجعت فإن الشعر نفسه بما يملكه من طاقات قد اخترق الفنون الأدبية، وأصبح أسلوبه وطرائقه في التصوير والتعبير من أهم العناصر المكونة للفنون الأخرى (تداخل الأجناس الأدبية).
نمو جنس أدبي وازدهاره لا يكون على حساب وتراجع جنس آخر، فلكل جنس أدبي شروط إنتاجه وظروف تلقيه، منها ما يتعلق بطبيعته التكوينية ومنها ما يخص المتلقين وظروفهم الحياتية والثقافية. والمفاضلة بين الأجناس على غير أسس الوظائف والغايات والمهام، وعناصر التكوين والحدود المقررة لهذا الجنس أو ذاك، هي ما يجب أن تؤخذ بالحسبان، وعليها أن تكون مرجعية للمفاضلة ومنطلقاً لها، مع الاعتراف المسبق بأن الأجناس الأدبية تخترق حدودها وتتجاوز قوانينها باستمرار، وفي هذا التجاوز والتخطي تكمن قدرة الأجناس على الاستمرار والازدهار والانتشار في المدى والعمق.