إخوتي والذئب
من أغرب وأمتع وأجمل ما مر معي أثناء طفولتي، تلك القصة التي لم ولن تغيب أبداً عن عقلي وقلبي.
كيف لطفل لم يتجاوز السابعة من الورد والبراءة أن يحمل رؤية تلك الحادثة من دون أن تموت مع الأيام؟!
أيعود ذلك لوعينا المبكر، أم لتأثرنا فقط بما نرى ونسمع؟
إن إحساسنا العظيم بالأشياء والأحياء من حولنا ربما لا ينبع من الأشياء والكائنات ذاتها، بل من مدلولاتها ورموزها ومعانيها وإشاراتها، فالقصة قد تنسى، والحكاية قد تموت، لكن معناها يبقى ورموزها لا تموت.
والأهم من كل ذلك هو الشخص الذي يتأمل الحكاية وينظر فيها، فبالنسبة للشخص العادي، البحر موج ومياه مالحة وصيد سمك وسباحة، أما بالنسبة للمبدع والفنان والشاعر فهو يرى أعمق من زرقة البحر وأبعد من شواطئه.
وإذا قدمنا الوردة للعاقل شمها واستمتع برؤيتها، أي إنه كالنحلة التي تأخذ من الوردة رحيقها وتتركها بسلام، أما الأحمق الجاهل فهو كالحمار الذي لا يجد في الورود الجميلة إلا طعاماً لبطنه الواسع.
أعود إلى حكايتي..
فقد كان لي ثلاثة أشقاء كبار، وقد عرفوا في بلدتنا بأنهم صيادون مهرة، لا تخطئ سهامهم ورصاصاتهم الهدف أبداً.
وذات يوم قدم أحد الأثرياء من بلدة مجاورة، واشتكى من ذئب متمرد يفتك بماشيته، وقد طفح الكيل وقرر أن يجعل من ذاك الوحش عبرة وفرجة للصغار والكبار.. فطلب من الأخوة الشجعان القبض على الذئب حياً، وافق الأشقاء بعد أن دفع الرجل لهم بعض المال الوفير.
نصب الشباب شبكة متينة في المكان الذي كانت أغنام الرجل ترعى وتجتر، ووضعوا داخلها طعماً مغرياً، ثم بدأ الانتظار.
ومرت الأيام، ثم أسابيع، ولم يظهر الوحش، فملّ الرجل وبدأ يتذمر، لكن الأخوة وبسبب خبرتهم الطويلة نصحوه بالصبر والاحتمال، فمن أراد أكل العنب عليه أن يصبر على الحصرم، ومن أراد أكل الثمرة عليه أن يرعى الزهرة.
وما هي إلا أيام حتى وقع صاحبنا في الفخ.. كان كبيراً رمادي اللون، يلمع جسده كالفضة، وتبرق عيناه كجمرتين متوهجتين، وأنيابه حادة صفراء مكسور بعضها، وقد تنم عن شراستها وكثرة ما فتكت بالآخرين. حمله الشباب بسبب ثقله بواسطة رافعة وأحضروه فرحين إلى ساحة الضيعة، حيث جهزوا له قفصاً كبيراً مفتوحاً من الأعلى وله باب صغير.
طلب أخي الكبير من السائق وهو يبعد الناس ويصيح بهم متذمراً، طلب من السائق أن يرجع برافعته إلى الوراء وينزل الذئب الكبير من الشبكة من الأعلى، ومن ثم بطريقة ما يحررون الوحش من قيده.
هكذا كانت الخطة، لكن قد تجري الرياح في اللحظات الأخيرة بما لا تشتهي السفن.. فجأة وبينما كانت الرافعة ترفع الشبكة الملتفة حول الذئب، انقطع الحبل وسقطت على الأرض.. لحظة لم يكن أحد يتوقعها.. مضت لحظات قبل أن يقف الذئب وجهاً لوجه أمام الصيادين الأشقاء وقد تحرر من القيد تماماً.. كنت أرقب ذلك من بعيد وأنتظر.. وبحركة مذعورة نزل السائق من الشاحنة وهرب نحو القفص، وحين ذلك تدافع الأخوة الثلاثة راكضين نحو باب القفص، أحنوا رؤوسهم ودخلوا مرتبكين، ثم أغلقوا عليهم الباب بإحكام.. أما الذئب فقد بقي هادئاً كرجل حكيم، لم يهرب أو يخَفْ، شرعت عيناه تجولان في وجوه أولئك الذين كانوا يبتسمون ساخرين منه قبل قليل.
اقترب، وراح يشم القضبان الحديدية الباردة، استدار، رفع رجله ثم بال عليها ومضى.