ذهنية الاختزال
1
تقوم المجتمعات السّوية المستقرة على أساس التفاعل والتكامل الخلاق بين جميع المكونات المجتمعية، فأية مقاربة لمشكلة اجتماعية لا تأخذ بالحسبان الكلية الاجتماعية المتوازنة والمتفاعلة، لن تصل إلى نتائج علمية ومعرفية إلا على أساس فهم التواشج بين الأجزاء المكونة وعلاقاتها بالكل الاجتماعي.
من أخطر الأمور في تناول القضايا الاجتماعية الوقوع في متاهة (ذهنية الاختزال) التي تفتت الكلية الاجتماعية إلى مجموعات أو فئات أو حتى طبقات، تدَّعي كل منها حق تمثيل المجتمع بأسره، إذ تصبح مصالح هذه الفئة أو تلك وأهدافها وتطلعاتها، نموذجاً يعكس المصالح الاجتماعية للجميع، تحت مظلة مفهوم (الشعب). هذه النظرة تقع في خطأين منهجيين في التفكير، الأول: الاجتزاء بإقصاء باقي المكونات الاجتماعية، وتهميشها، والثاني تعميم مصالح فئة ما ورغباتها وتطلعاتها، وجعلها تجسيداً لهموم الفئات الاجتماعية الأخرى ومصالحها.
إذا صح أن الطبقات الاجتماعية تتصارع، ولا يمكن في المجتمع الطبقي التوفيق بين مصالحها جميعاً، فإن المجتمعات التي تتميز بتداخل الطبقات فيها وبغياب الحدود الواضحة، والمائزة بينها، يصبح البحث عن المشترك الطبقي فيها هدفاً للجميع، كشرط لضمان حياة آمنة تستند إلى استقرار طبقي متوازن دون أن تطغى مصالح طبقة أو فكرها على سائر الطبقات.
اختصار المجتمع المتعدد الطبقات، والمختلف المصالح والرؤى والتوجهات والأمزجة والأفكار، إلى بعض أجزائه المكوِّنة، يشكل خطراً جسيماً على الكلية الاجتماعية ويهدد استقرارها، بل وقد يقود إلى تصادم يفضي في كثير من الأحيان إلى مواجهات عنيفة ودامية.
2
ذهنية الاختزال هذه قد تنتقل من الاجتماع إلى السياسة، وهي دون شك (السياسة) من أهم التعابير عن المصالح الاجتماعية والطبقية، فالمجتمعات عبر مسيرتها أوجدت أشكالاً من التنظيم تعبر الفئات الاجتماعية فيها، عن مصالحها، فالأحزاب السياسية هي ممثل للمصالح الطبقية (الاجتماعية) ومن البديهي أن تتعدد الأحزاب في المجتمعات المتعددة الأنماط الاقتصادية والاجتماعية. واختزال هذه التعددية الحزبية إلى حزب واحد، أو تحالف أحزاب، يختصر الغنى الاجتماعي، والتعدد الموضوعي فيه، فكلما كانت الحياة الحزبية مؤسسة على التعدد والتنوع أصبحت الحياة الاجتماعية أقرب إلى الاستقرار والابتعاد عن الهزات.
التعاون الفعال بين الأحزاب على أساس التنوع والاختلاف، والابتعاد عن سياسات الاختزال والتهميش، لأي مكون سياسي أو حزبي، يقوي الحراك السياسي. فقوة أي حزب حتى ولو اختلفت وتباينت وجهات النظر والمرجعيات لديه، هو قوة للحراك السياسي وإغناء له. والتفرد والعزل والإقصاء لأي فصيل سياسي، هو إضعاف للجميع.
3
ذهنية الاختزال، قد تطول التاريخ أيضاً، باجتزاء التاريخ المتراكم المتفاعل إلى مرحلة من مراحله، أو فترة من فتراته، وتعميم الاستنتاجات على المراحل التاريخية جميعها، إذ يصبح تاريخ اليونان على سبيل المثال كأنه تاريخ العالم. أو أن التاريخ الحديث يبدأ من أوربا، فلا تاريخ ولا تقدم ولا تطور إلا في مرحلة السيادة الأوربية (المركزية الأوربية). وليس بعيداً عن ذلك اجتزاء تاريخ المنطقة بالمرحلة العربية الإسلامية منه على أهميتها، فهي جزء من تاريخ المنطقة، المتصل بمكونات الحراك التاريخي العام، تغتني بإنجازاته وتتأثر بها، وتضيف إليها. تتأسس حركة التاريخ على مبدأ التراكم الكمي، المفضي إلى تحولات نوعية تساهم فيها جميع الشعوب، كل منها بالقسط الذي يسمح لها شرطها التاريخي بالمساهمة فيه.
اختزال التاريخ إلى مرحلة من مراحله، ثم تعميم خصائص وسمات هذه المرحلة، على مجمل الحراك التاريخي، يشوه العملية التاريخية، ويهدد وحدة التاريخ، فكل مرحلة تاريخية حبلى بما سبقها، ومتعايشة مع حاضرها، ومتفاعلة مع ماضيها، على طريق تشكيل أجنة المستقبل، التي لا يمكن أن تولد معافاة وسليمة إلا إذا قامت على التفاعل والتخصيب، ومشاركة جميع شعوب الأرض، بكل ما لديهم من حضارة، وفكر وثقافة وقيم وتجارب.
ونحن على عتبات حوار وطني عام وشامل، علينا جميعاً أن نعمل على جمع المختلف، وإيجاد إيقاع يوحد بين المتباينات، فالحوار الخلاق المنتج، لا يقوم إلا على أساس المشاركة بين جميع المكونات المجتمعية بعد التحرر من ذهنية الاختزال والابتعاد عن عقلية الاحتواء والإلغاء والتهميش، لنصل إلى مؤتمر وطني يمثل جميع المكونات المجتمعية بكل ما فيها من أفكار ورؤى وتطلعات، فالتنوع قوة، والاختلاف في إطار الوحدة ضمانة راسخة للخروج من الأزمة.