التفسير الاقتصادي لنشوء الشركات متعددة الجنسية

لم تتفق النظرية الاقتصادية على إيجاد تفسير محدد لأسباب نشوء ظاهرة الشركات متعددة الجنسية رغم قدمها ومرور عدة عقود من الزمن على وجودها.

لقد عمدت النظرية الاقتصادية الكلاسيكية إلى تفسير حركة رأس المال للاستثمار المباشر قياساً على حركة التجارة الدولية والمالية. إلا أن هذا التفسير لاقى صعوبات كافية في طبيعة النظرية ذاتها. فنظرية التجارة الدولية لا تقدم تفسيراً محدداً للاستثمار المباشر، بل إنها قد افترضت بادئ ذي بدء عدم قابلية عوامل الإنتاج للانتقال من بلد إلى آخر، كما افترضت كون الشركات تعمل في سوق تنافسي ينفصل فيه البائع عن المشتري، وكل منهما يمثل وحدة صغيرة لا تستطيع التأثير على حركة الأسعار (1). وهذا هو عكس ما هو موجود في صلب عمل الشركات، حيث تنتقل عناصر الإنتاج، كما أن التبادل الدولي داخل الشركات متعددة الجنسية يشكل نسبة أكبر من التبادل خارجها. ففي حالة الشركات متعددة الجنسية في الولايات المتحدة فإن كل أربعة من خمسة دولارات تتلقاها هذه الشركات عن السلع والخدمات التي تبيعها من الخارج، هي من حصيلة السلع والخدمات التي تنتجها الشركات المنتسبة إليها في الخارج (2).

لقد حاول بعض الاقتصاديين تطوير المفاهيم الكلاسيكية في شرح أسباب تدفق الاستثمار المباشر، معللين سبب الانتقال إلى الفروق الناجمة في الإنتاجية الحدية لرأس المال، أي أن رأس المال ينتقل من البلاد التي تمتاز بوفرته إلى الأخرى التي تتسم بندرته حيث أن الإنتاجية الحدية تكون أعلى في الأخيرة من الأولى.

إلا أن واقع البيانات المتوفرة يشير إلى عكس ذلك، فقد أوضح تقرير الأونكتاد السابق ذكره، أن البلدان المتقدمة تستأثر معاً بنحو 65% من حجم الدفقات الإجمالية الداخلة، وكما هو معلوم فإن هذه البلدان تتقارب فيها الإنتاجية الحدية لرأس المال. ومع ذلك فإن هذه النظرية تمتلك جانباً من الصحة، خصوصاً فيما يتعلق بتفسير استغلال الشركات لظروف الاختلاف في أحوال الإنتاج والعمل بين الدول.

إن فشل الإطار الكلاسيكي للنظرية الاقتصادية في إيضاح سبب نشوء الشركات متعددة الجنسية ساعد على ظهور ثلاث نظريات هي: نظرية السياسة العامة، والثانية نظرية دور المنتج، أما الثالثة فهي نظرية سوق احتكار القلة.

تستند نظرية السياسة العامة إلى الأفكار التجارية التي ترى أن الاقتصاد يخضع للسياسات الحكومية، وأن الشركات هي أدوات للسياسة الخارجية للحكومة الأم. ووفقاً لهذه النظرية فإن الاستثمار الخارجي للشركات العملاقة لم ينشأ ويتوسع نتيجة ضرورات اقتصادية، وإنما كان سياسة اختارتها الشركات لكي تستفيد من الحوافر التي  قدمتها الحكومات الأم لكي تغري شركاتها بالاستثمار الخارجي (3).

تثبت الوقائع عدم دقة التفسير لهذه النظرية، فقد تبين أن كثيراً من الشركات متعددة الجنسية مارست نشاطها في الخارج هرباً من الرقابة الحكومية، وأنها كثيراً ما مارست سياسات أضرت بعض الشيء باقتصاد البلد الأم أيضاً. كما أنه من الواضح أن حكومات البلدان الرأسمالية المتقدمة هي التي تسعى لكسب رضا هذه الشركات وليس العكس. ويمكن أن تنجح هذه النظرية في تفسير الاستثمارات الداخلية حيث أن السياسات التي تقوم بها الحكومات المضيفة من تحرير ورفع للقيود وعمليات توسيع الخصخصة من شأنها أن تزيد من إقبال الشركات متعددة الجنسية للاستثمار فيها، وكما حصل في دول جنوب وشرق آسيا.

أما نظرية دورة المنتج فترى أن الاستثمار الأجنبي يعتبر عملاً دفاعياً يقصد به حماية أسواق التصدير من المنافسين المحتملين. فكل منتج له دورة حياة، في المرحلة الأولى تتمتع الشركات المنتجة بميزة احتكارية للبضاعة الجديدة، وتستغل الشركات هذه الميزة عن طريق التصدير إلى الأسواق الخارجية، ولكن مع نمو وتطور المنتج تصبح التكنولوجيا اللازمة لإنتاجه شائعاً نسبياً، وينتشر المنافسون القادرون على الإنتاج. تزداد في هذه المرحلة أهمية الاقتراب من الأسواق لاختصار تكاليف النقل وتخفيض تكاليف العمل، وتتولد بذلك ضرورة ذهاب الشركات للإنتاج بالقرب من الأسواق التي قد يبتلعها منتجون محليون أو أجانب. أما المرحلة الثالثة من الدورة التكنولوجية لحياة المنتج فإن المزايا المقارنة تتحول إلى الاقتصادات كثيفة العمل ومنخفضة الأجور، وفي هذه الحالة يمكن إنتاج السلعة في المجتمعات الفقيرة من أجل إعادة التصدير إلى البلد الأم للشركات المنتجة. (4).

تبرهن على صحة ذلك، النشاطات التي مارستها كل من الشركات الأمريكية واليابانية في إعادة نشر الصناعة التحويلية، فعندما تجد هذه الشركات أن التصدير لم يعد مربحاً تسعى للإنتاج في الخارج مستفيدة من المدخلات المنخفضة (خصوصاً العمل) كجزء من جهدها لتحسين كفاءتها وأدائها وزيادة أرباحها. إلا أن المأخذ الذي يمكن أن يؤثر على هذه النظرية هو أن الشركات متعددة الجنسية أصبحت تطبق الآن أحدث الابتكارات والاكتشافات التكنولوجية في البلدان المضيفة مما يعطل تفسيرها.

تذهب النظرية الثالثة إلى أن دافع الاستثمار الأجنبي يكمن في طبيعة أسواق احتكار القلة. فهذه الأسواق تقسم على نحو ما بين قلة من الشركات المنتجة الكبيرة، وتجعل المنافسة الاحتكارية من الصعب على أي شركة أن تنمو عن طريق المضاربة السعرية. وبالتالي فإن الشركات تسعى لتعزيز فرصها للنمو عن طريق الاستيلاء على أسواق خارجية بالإنتاج فيها، مما يعزز أيضاً المستوى العام لربحيتها.

من الواضح في هذه النظرية تركيزها على جانب الضغوط المتولدة في السوق القومية مقابل تجاهل الإغراءات المتاحة في الأسواق الأجنبية، وهي تهمل أيضاً واقع لجوء الشركات الصغرى والعاملة في سوق تنافسية للاستثمار في الخارج مثلها في ذلك مثلاً الشركات العملاقة، وفوق ذلك فإنه من غير الواضح معرفة لماذا لا تستطيع الشركات أن تنمو وتتحرر في الوقت نفسه من الضغوط الاحتكارية عن الطريق التصدير السلعي لا الاستثمار المباشر. (5).

إن فشل هذه النظريات في إعطاء تفسير جلي لظاهرة الشركات متعدد الجنسية يكمن في أن هذه النظريات عالجت المسألة من جانب سعي الشركات إلى استغلال التباينات بين الدول وزيادة فرصها في النمو والربح، دون البحث في الدور الذي تضطلع به هذه الشركات لفرض وإعادة صياغة الظروف الاقتصادية والسياسية لنشاطها. فهذه الشركات لم تكن رد فعل لظرف معين، بل هي تجسيد الوعي لرأسمالية لبسط نفوذها عالمياً.

عمد بييه ودوبريتس ـ منطلقين من مفاهيم الاقتصاد السياسي والاشتراكي ـ إلى تفسير نمو الإنتاج الدولي بالقول إن تدويل رأس المال يظهر باعتباره توسيعاً لمجال توحيد ظروف إنتاج الصناعة، تحت تأثير حركة التمركز والتركيز الرأسمالية (فيقترن اجتياح رأس المال في بلاد العالم على شكل قروض بتكوين الاحتكارات الدولية التي تمثل مظهراً من مظاهر اقتسام العالم، إذ تفيض المؤسسات الاحتكارية ذات القوة الهائلة بسرعة عن إطارها القومي وتتجه نحو تكوين احتكارات عليا تلعب دوراً هاماً في الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية) (6).

وقد تكون هذه الحركة مستقلة بدءاً من مبادرة الشركات ذاتها ـ أو استجابة للسياسات الحكومية وما تنتجه من فرص لهذه الشركات. وهذا التوسع للمجال يعني أن ظروف الإنتاج لم تعد تتحدد على صعيد قومي، بل تتسم بحركة مزدوجة للتوحيد بتأثير التجديد التكنولوجي، والحاجة للتسويق على صعيد عالمي.

غالباً ما تفسر أسباب استثمارات الشركات متعددة الجنسية على أنها للاستفادة من فوارق تكلفة العمل وذلك للتغلب على معدل الربح الهابط في الدول الرأسمالية، إلا أن الواقع يشير إلى أن معدل الربح في الدول الرأسمالية ظل مستقراً. ومن ناحية أخرى فإن الجزء الأكبر من الإنتاج الصناعي المتولد عن المشروعات التابعة أو المنتسبة للشركات متعددة الجنسية يتجه إلى الأسواق المحلية التي تنتج فيها، ومن ثم فإن فوارق تكلفة العمل لا تزال بعيدة من أن تمارس دوراً كبيراً في زيادة معدل الربحية في البلاد الأم. وتكمن الأهمية الحقيقية لهذه الفوارق (الإنتاج الرخيص) في إمكانية النمو عن طرق التوسع في أسواق لا تزال قدراتها الاستيعابية محددة نتيجة الفقر المطلق أو النسبي. على أن الأمر يتخطى مجرد النمو إلى السيطرة على شروط البقاء والنمو في إطار سوق رأسمالية تحتوي على درجة محددة من عدم اليقين والذي يعود سببه إلى ظروف المنافسة الدولية من جهة، وإلى التطور الكبير للحركة العمالية في البلدان الرأسمالية المتقدمة إلى حد أكبر، وبالتالي يكون الإنتاج إجراء احترازياً للتغلب على السلاح الإضرابي للعمال. كما أن الاستثمار في الخارج يعيد التوازن إلى سوق احتكار القلة على الصعيد العالمي أو ضبط ظروف تنافسية (7).

يستنتج مما تقدم أن تفسير تدويل الإنتاج يعود إلى توحيد الظروف الفنية للإنتاج، والسيطرة على شروط البقاء والرغبة في النمو على الصعيد العالمي، حيث ينتج الانتشار الجغرافي للشركات متعددة الجنسية إمكانية توسيع مجال العمل داخل الشركة الأم، وبالتالي إمكانية النمو المأمون.

هوامش:

(1) محمد السعيد سعيد، الشركات عابرة القومية ومستقبل الظاهرة القومية. سلسلة عالم المعرفة ص 25.

(2) الأونكتاد، تقرير الاستثمار العالمي 2006 النسخة العربية ص 10.

(3) محمد السيد سعيد، مرجع سابق ص 26.

(4) المرجع السابق، ص 27 ـ 28.

(5) المرجع السابق، ص 28 ـ 29.

(6) جان بابي: القوانين الأساسية للاقتصاد الرأسمالي. دار العلوم الحديث ـ بيروت ص 199 ـ 200.

(7) محمد السيد سعيد ـ مرجع سابق ص 31 ـ 32.

العدد 1140 - 22/01/2025