رسالة الميلاد في أبجدية الفينيق.. لحن محبة وسلام
حضارة سوريانا التي كتبت الهوى سراً في رموز المحبة لتسافر لكل العالم أغاني عشق وسلام للحياة لتكون رسولاً للأرض والإنسان، ومن مغارة صغيرة في الأرض السورية المباركة يشع النور المقدس لتبتهل الملائكة بميلاد رسول المحبة عيسى عليه السلام لتكتب الحضارة سطراً جديداً في تاريخها الذي هو مهد العالم.. وفي الوقت الذي كانت فيه الأضواء مسلّطة على (روما) -سيدة العالم في حقبة ما-، وعلى العرش المتألق الذي أقامه (أوغسطس قيصر)، وُلد السيد المسيح عيسى ابن مريم في بيت لحم بفلسطين، فقسم التاريخ البشري كله إلى عصرين.. وقد كان ذلك من أعظم أحداث التاريخ السوري القديم، ذلك أن الديانة المسيحية هي ديانة سورية قديمة، وأن المسيح الذي ولد في ظل نخلة، سوري، والسوريون لم يعتنقوا خلال تاريخهم ديانة وافدة، بل تمسكوا بدياناتهم التي ولدت في بيئتهم الروحية التاريخية.
وإذا كانت لبعض روايات حياة السيد المسيح أو تعاليمه ما يشبهها في تراث الشرق القديم، فإنه لا يمكننا أن نجد في أي مكان آخر مثل هذه الخلاصة المحكمة من الأفكار النبيلة، وهذا التأكيد على المُثُل الراقية لشخص طبّق ما علّمه بمثل هذه الصورة التامة، فجمع السيد المسيح حوله الأتباع وعلّم وبشّر، وشفى ثم صُلب بسبب معتقداته التي كان أساسها محبة الله ومحبة الإنسان.. وبالمحبة جعل المسيحيون السوريون الأوائل الإنسانية عائلة واحدة تحت أبوّة واحدة… وشقّ هذا الدين السوري طريقه إلى مرتبة التفوّق الروحي مسجّلاً للحضارة السورية أعظم مآثرها في سبيل تقدّم العالم.
ولعل عيد ميلاد السيد المسيح هو ثاني أهم عيد في المسيحية بعد عيد القيامة، وهو يترافق مع احتفالات دينية وصلوات خاصة للمناسبة، واجتماعات عائلية واحتفالات اجتماعية أبرزها وضع شجرة الميلاد ومغارة الميلاد، وتبادل الهدايا، واستقبال بابا نويل، وتناول عشاء الميلاد.
أما الاحتفاء بشجرة الميلاد وتزيينها فيعود في جذوره إلى عبادات سورية قديمة مستمدة من عبادة الشجرة ضمن عبادة آلهة الخصب، تلك العبادة التي تعود إلى ديانة أوغاريت الكنعانية، حيث عرف مجمع الآلهة في أوغاريت الإلهة (أشرة) التي كانت تُمَثَّل على شكل جذع شجرة، وتُقام لها المقامات والتماثيل في الأماكن العالية، الأمر الذي يؤكّد ارتباط الديانة المسيحية بماضٍ حضاري، بل إنها صلة الوصل بين حضارة سورية القديمة وحاضرها، وذلك بما استمر من تقاليدها وتعاليمها وطقوسها في الكنائس والأديرة. يكفي هنا أن نذكر نبوءة عن ولادة المسيح من مريم العذراء، من خلال عبارة عثر عليها المختصون في نصوص أوغاريت الكنعانية السورية وهي:(ها هي العذراء تحمل وتلد ابنًا).
ختاماً، فإن عيد ميلاد السيد المسيح هو عيدّ لكل سوري بما يحمله هذا العيد من معانٍ إنسانية وحضارية، وهو دافعٌ للتمسّك بقيم المحبة التي انطلقت بها رسالة المسيح السوري إلى العالم، ولعل معاناة السيد المسيح تعكس معاناة وطن بأكمله يواجه كل طغاة الأرض ممّن يشهرون سيوف حقدهم وحراب إجرامهم في وجه شعب سورية وهويته ومكوناته الحضارية التي يشكّل فيها ميلاد السيد المسيح ورسالته جزءاً أساسياً، وهنا لا بد أن نتحدث عن نص رسالة الملك السوري (أبجر عكامة) ملك مملكة الرها السورية الآرامية إلى السيد المسيح سنة 30 ميلادية
وهذه الرسالة غاية في الأهمية بخصوص كون المسيحية ديانة سورية أصيلة استلهمت الفكر الروحي السوري القديم، وعملت على ترسيخه، كما تنفي أن المسيح من أصل يهودي.
والرسالة التي نشر نصها الباحث السوري فايز مقدسي* تبيّن عداوة اليهود للمسيح وتبيّن أيضًا مدى ترحيب السوريين آنذاك، في أرجاء بلاد الشام والعراق كافة، بالمسيح ودعوته التي وجدوا إرثهم الروحي فيها، فلم تكن غريبة عنهم…ونص الرسالة الأصلي مدوّن باللغة الآرامية السريانية السورية، ويعود إلى القرن الخامس الميلادي. غير أن هذه النسخة المتأخرة يبدو أنها منقولة عن نسخة قديمة لا تزال مفقودة إلى اليوم.
(من الملك أبجر عكامة إلى يسوع الطبيب العظيم.
يا سيّدي عليك مني السلام.
أمّا بعد:فقد بلغني أنك تشفي المرضى بقوة كلامك ودونما دواء أو ترياق. وأنك تجعل الأعمى يبصر، والمُقعد يمشي والأصم يسمع، وكل ذلك بقوّة كلامك؛ ولقد بلغني أنك تحيي الموتى أيضًا. ولمّا سمعتُ كل ذلك يا سيدي على لسان رسولي إليك حنان، فقد قلت في نفسي إنك نزلت من السماء بلا شك، وإنك ابن الله. لذلك أطلب منك في رسالتي هذه أن تأتي إلى مملكتي وتشفيني من مرض البرص، لأن إيماني بك كامل. ولقد بلغني يا سيّدي أن اليهود يتآمرون عليك ويسعون إلى صلبك وقتلك، وأنهم على وشك أن يفعلوا ذلك. لذلك أقول لك إن مدينتي ليست كبيرة، ولكنها جميلة وتتسع لنا نحن الاثنين معًا لنعيش فيها بسلام).
عندما تسلّم يسوع نص الرسالة من حنان، قرأها، ثم قال لحنان:
(عُدْ إلى الرها وقل لسيّدك إنني أقول له:طوبى لك لأنك آمنت بي قبل أن تراني، لأنه مكتوب عنّي أن الذين يرونني لا يؤمنون بي، والذين لا يرونني يؤمنون بي. إنك أيها الملك (أبجر) تسألني أن آتي إليك. إنما ما جئتُ من أجله قد تمّ، ولكن ما إن أصعد إلى الذي أرسلني، أي أبي الذي في السماوات، حتى أرسل إليك أحد تلامذتي ليشفيك من مرضك. وكذلك سوف أمنح الحياة الأبدية لكل الذين حولك. وإني أبارك مملكتك، فلا يغلبك عدوّ أبدًا).
الميلاد ينبثق نوره من حضارة الإنسانية والعلم والثقافة، حضارة الفينيق وكنعان العظيمة التي كتبت الأبجدية ورسمت بريشة الموسيقا تراتيل الميلاد، لتنشدها الملائكة فرحاً برسول الإنسان يشق ظلام الليل بنوره من مغارة المهد، ليتكلم بلسان السامية مبلغاً رسالة المحبة والإنسانية لكل العالم من أرض السلام والطهر… الميلاد يكتب سورية جديدة بعزتها وكبريائها على مر التاريخ، وستبقى سورية الميلاد الذي يشع نوره بالمحبة والسلام.