بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيله صميم الشريف رائد النقد الموسيقي ترثيه الأنغام والأوتار والمقامات

لا يمكن أن يتعدى اسم صميم الشريف الذاكرة السورية دون أن تتذكر عطاءاته وإصراره وإرادته القوية وحرصه على الانتماء إلى هويته العربية عامة، والسورية خاصة. فهو أحد الرواد في مجال القصة القصيرة إذ قدم أول مجموعة قصصية له عام 1953 /أنين الأرض/ حملت هموم المجتمع، بواقعية مثلى. ونال الجائزة الأولى في مجلة (النقاد) عن قصته /القتال/. خط طريقه نحو الأدب بعد إنتاج مجموعته الثانية /عندما يجوع الأطفال/ عام ،1961 بتقدمة الأديب يوسف إدريس. إلا أن الموسيقا كانت هاجسه منذ صغره، ورغم اعتراض أسرته على تعلمه الموسيقا إلا أنه تعلمها بعد أن تأثر بالموسيقي الشهير مصطفى الصواف، الذي أخذ بيده مع مجموعة من المبدعين أمثاله بين عامي 1940 و1941 في معهد أصدقاء الفن المجاور لمنزل أسرته وعائلته. أحب أعمال العمالقة القصبجي وزكريا أحمد والسنباطي وعبد الوهاب وفريد الأطرش. لكن أذنه أحبت أيضاً أعمال بيتهوفن وموتسارت وشوبان.

 وبعد أن التقى بمعلمه الموسيقي الروسي البارون آراست بللينغ، بدأ الكتابة في مجلة (الأديب) حول أعلام الموسيقا عام 1947. وما إن أخذت الإذاعة طريقها حتى كان من أهم معدي برامجها الموسيقية، بادئاً في (ساعة حول العالم) الذي حقق حضوراً قل نظيره، الأمر الذي دفع به لإعداد كتابه الأغنية العربية الذي وضع به خبرته النقدية ورؤيته العلمية بطريقة سردية أدبية عالية الجودة. وأخذت رؤيته تتضح في تحيزه للموسيقا العربية، ساعياً من وراء مقالاته النقدية لإبداع أغنية سورية تحمل طابعاً خاصاً في جملتها الموسيقية وبنيتها التركيبية الإيقاعية والفنية. ومن يقرأ ما أصدرته له الهيئة العامة للكتاب من الكتب بطبعة جديدة: السنباطي وجيل العمالقة، الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ، تشعر كم هو حريص على الموسيقا السورية، حين أرخ منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين، متناولاً بإيجاز حياة أكثر من ثمانين علماً من أعلام الموسيقا والتلحين والغناء، بين عامي 1885و،1930 مع دارسة لقوالب التأليف الموسيقي والغناء العربي وبعض الإيقاعات، والاتجاهات المختلفة التي سادت الموسيقا والغناء في زمن الرواد وورثة الرواد الذين تعايشوا معهم.

 عمق الراحل بحثه بشيء من التفصيل عن الأغنية العربية في نهضتها وتبوئها للمكانة التي وصلت إليها، وواقع الغناء والموسيقا في سورية، بدءاً من جلاء المستعمر في السابع عشر من نيسان /أبريل عام 1946 إلى نهاية القرن العشرين، والاتجاهات التي أخذ بها الموسيقيون المؤلفون والملحنون والمطربون منذ عام 1931 وما بعد. وبحث في دور المسرح الغنائي والسينما والإذاعة في النصف الأول من القرن العشرين، وهو الذي قدم للمسرح أكثر من ثلاثة أعمال مسرحية، ووثق دور الأندية الموسيقية والمعاهد الرسمية السورية، بالموسيقيتين الشرقية والغربية، شارحاً دخول الآلات الموسيقية الغربية في الفرق الموسيقية العربية، مثل أسرة الكمان برمتها، والغيتار والبانجو والماندولين والبيانو والأكورديون وبعض الآلات النفخية، ومن ثم الأورغ والغيتار الكهربائيين، وتأسيس الفرق الموسيقية العربية، وفرق الجاز والفرقة الوطنية السيمفونية، ودور الموهبة والإبداع والمزج الموسيقي في كل ذلك، وهو عازف من طراز رفيع على آلة الماندولين.

اعتمد رحمه الله في أبحاثه على المصادر والمراجع التي ركزت على استشفاف الواقع التاريخي موسيقياً لفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها حتى أواخر العشرينيات. كما اهتم ببحوث متعددة ورؤى نقدية متجددة تنم عن تجربة علمية خاضها بعد دراسة وعلم ودراية في أصول التأليف الموسيقي والأنغام والتفريدات المقامية، والتعديلات العلمية الموسيقية التي جرت في مؤتمرات الموسيقا العربية منذ المؤتمر الأول في القاهرة عام 1932 حتى تاريخه. على أنه واكب الحداثة النقدية، وهو المحكم لأكثر من مئة مهرجان موسيقي عالمي.. حتى أمكننا القول إن الساحة الثقافية النقدية في سورية تكاد تخلو بعده من الموضوعية والدقة. ولهذا يعد الراحل الكبير أحد أهم المؤرخين والباحثين الموسيقيين في سورية والوطن العربي.

وإذا أردت التكلم عن تجربتي معه بإيجاز قبل عقدين وأنا أنهل من معينه فربما لست الوحيد مع الكثيرين الذين عاصروه واستفادوا منه ومن علمه، لميزة تفرد بها قل نظيرها بين المعلمين، فهو محب ومعطاء، وأقرب الأصدقاء لديه هم الذين يهتمون بالأدب والموسيقا. وحين كنت أقع في هنات معرفتي بالموسيقا والنقد كان شديد العقاب عليَّ فأنا ممن تربى على يديه في هذا مجال وتعلمت منه الكثير. وحين جئته بمخطوط لي يحتوي على دراسة للراحل فهد بلان قال لي عليك نسف المخطوط وإعادة كتابته من جديد، وإلا فابحث عن غيري في الإشراف عليك، كنت كما أراد، وبعد أكثر من نصف عقد من العلم والجلسات الموسيقية والبحثية في بطون المراجع والمصادر والبحث قدم لي الكتاب بمقدمة أفخر بها ما حييت، إذ قال لي: الآن يا ولدي أستطيع أن أقول عنك تلميذي، فهذه الكلمة المحببة لديه لمن يحب. والجدير بالذكر أنني قبل رحيله بثلاثة أيام اتصلت به للاطمئنان على صحته فحمَّلني أمانة قائلاً: يا بني إذا حدث لي شيء فعليك أن تلقي تحيتي وسلامي على جميع أهالي جبل العرب، وتابع طريقك في الموسيقا، وانتبه يا بني إلى سورية فهي الملاذ لجميع المفكرين والتقدميين وأصحاب الأدب والفن.

رحل أستاذي الكبير والدموع تملأ المقل، تاركاً مساحات كبيرة على مستوى النقد الموسيقي العلمي، بعد أن امتلك قدرة على كشف تفاصيل الجملة الموسيقية، وميَّز بين الاستماع للموسيقا الغربية التي تدعو للتفكير والتأمل، وبين الاستماع إلى الطرب التأملي أو النفسي أو الغريزي في الموسيقا العربية. لقد رحلت جسداً وستبقى في الروح عطاء لا ينضب، يا من علمتنا معنى العطاء.

سيرته الذاتية

ولد الراحل في دمشق عام ،1927 وتلقى علومه فيها، عمل مدرساً للموسيقا في الثانويات. أسندت إليه مهام عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الكتاب العرب، وعين أميناً لتحرير مجلة (الموقف الأدبي)، ترأَّس جمعية تنظيم الأسرة السورية منذ أكثر من ثلاثة عقود. متزوج من السيدة هدى الوادي شقيقة الراحل الموسيقار صلحي الوادي، وله شابان زيد وطلال، من مؤلفاته:

1- أنين الأرض- قصص- دمشق 1953.

2- أساطين الموسيقا العالمية- دراسة- دمشق 1954.

3- عندما يجوع الأطفال- قصص- دمشق 1961.

4- عندما كنت في قلب أوربا.

5- الأغنية العربية- دراسة- دمشق 1981.

6- السنباطي وجيل العمالقة- دراسة – دمشق 1988.

7- الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ.

8- الموسيقار نجيب السراج، عصر من الموسيقا والغناء. 

العدد 1140 - 22/01/2025