وظيفة الأدب

كانت أولى وظائف الأدب الوظيفة الأخلاقيّة ، أيّ تربية الإنسان على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.أيّ تتمة لما تنادي به المؤسسات الدينيّة  من تعاليم أخلاقيّة ،والأمر بالابتعاد عن المفاسد.

هل يلبي الأدب حاجة فطرية لدى الإنسان ؟ ألا يمكن الاستغناء عن الأدب ؟ أم أنّه ضروري للإنسان كالهواء والماء والغذاء ؟ إنّه ليس ضرورياً إذا اعتقدنا أنَّ الإنسان جسد وحسب، وأمّا إذا اعتقدنا أنَّ الإنسان جسد وروح، جسد وعواطف ومشاعر، آنذاك نؤمن أنَّ الهواء والماء والغذاء تلبي الحاجات الجسدية لدى الإنسان، أمّا الحاجات الروحية فيقوم الأدب بتلبية جزء منها. ومن ثم يقوم الأدب أيضاً بوظيفتين: الأولى دائمة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والشعوب، والثانية متغيرة، تتغير من مرحلة تاريخية إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر، ومن شعب إلى آخر.

الوظيفة الدائمة للأدب هي تلبية حاجة فطريّة أيّ غير مكتسبة لدى الإنسان. وقد لاحظ هذه الملاحظة الروائي الروسيّ ليف تولستوي (1828-1910) عندما افتتح مدرسة لأطفال الفلاحين في قريته بأسنايا بوليانا، و أخذ يسرد على الأطفال الحكايات، فوجد أنَّ الأطفال يشعرون بمتعة كبيرة. ففهم أنَّ الأدب ليس وسيلة من وسائل التسلية التي تلجأ إليها الطبقات البورجوازية من أجل قتل الوقت، وإنما هو حاجة من حاجات الإنسان الفطرية. بدليل أنَّ الطفل يستمتع بالأغنية والحكاية. ولذلك تابع ليف تولستوي نشاطه الأدبيّ بعد أن أراد التوقف عن الكتابة، لاعتقاده، في مرحلة معينة من مراحل حياته، أنَّ الأدب للأغنياء فقط، ففهم أنَّ الأدب لكلِّ الناس، للصغار والكبار، للمثقفين وغير المثقفين، للأغنياء والفقراء وللشعوب كافة. ولكنّ لكل  فئة من الناس أدبها، فما يصلح للصغير قد لا يصلح للراشد، وما يستمتع به إنسان معين قد لا يستمتع به إنسان آخر، أو قد لا يستمتع به الإنسان نفسه في مرحلة أخرى من عمره.

ورأى أرسطو (384-322) ق.م في كتابه (فن الشعر)، الذي ترجمه إلى اللغة العربية أبو بشر متى بن يونس، وظهرت بعد ذلك ترجمات عدة منها ترجمة عبد الرحمن بدوي: أنَّ المأساة (…. تثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات). ومن ثم فإنَّ أرسطو يرى أنَّ للأدب مهمة معينة، وهي التطهير. ويتم التطهير عن طريق المحاكاة التي تحدّث عنها سلفه أفلاطون، وطورها أرسطو.

الأدب هو المعبّر الأفضل والأقوى بين جميع الفنون عن النفس الإنسانية، التي تعكس كلّ ما في العالم. وبالتالي فإنَّ الأدب يعبّر عن كلِّ ما في العالم ماضيه و حاضره،  فله علاقة بالدين والفلسفة والتاريخ.

ويقول ميخائيل نعيمة في مقالة له بعنوان (ماهية الأدب ومهمته)، من مجموعة (دروب)، التي صدرت عام 1932: (وإذن فمهمة الأدب هي التعبير عن الإنسان وكلِّ حاجاته وحالاته تعبيراً جميلاً صادقاً من شأنه أن يساعد الإنسان على تفهم الغاية من وجوده، وأن يمهد الطريق إلى غايته. وإذن فللأدب رسالة سامية، وكل من أنكر على الأدب رسالته كان مارقاً من الأدب).

ويرى الناقد رينيه ويلك (مواليد 1903) في كتابه (نظرية الأدب)، الذي قام بترجمته الدكتور حسام الخطيب، وبالتحديد في فصل (وظيفة الأدب): أنَّ الأدب يحقق المتعة والفائدة، ولا يجوز أن تطغى إحدى الوظيفتين على الأخرى، بل يجب أن تندمج المتعة والفائدة في العمل الأدبيّ اندماجاً عضوياً.

ولكن مضمون الفائدة يختلف من شعب إلى آخر، ومن مرحلة  تاريخية إلى أخرى. وكذلك طريقة الوصول إلى المتعة والفائدة تختلف من أديب إلى آخر، ومن مدرسة أدبية  إلى أخرى. ولكي لا نبتعد كثيراً نرى من الأفضل أن نأخذ أمثلتنا من أدبنا العربيِّ.

يرى النقاد أنَّ المرحلة الأولى من تاريخ الأدب العربيِّ، والتي أطلقوا عليها اسم الأدب الجاهليِّ أو الأدب العربيِّ قبل الإسلام، قد بدأت تقريباً قبل نزول الإسلام بمئة وستين عاماً، أيّ بدأت عام 450 ميلادية واستمرت إلى عام ،610 أي عند بداية الدعوة الإسلامية. وكانت وظيفة الشاعر في الأدب العربيِّ الجاهليِّ الدفاع عن قبيلته ومدحها وهجاء القبائل المعادية. ولذلك كانت القبيلة تفتخر بشعرائها لأنَّهم لسان حالها. فإذا ما نبغ شاعر في قبيلة معينة جاءت القبائل الأخرى لتقدم التهاني لتلك القبيلة. ومعظم الآثار الأدبية التي تركها لنا أجدادنا في العصر الجاهليِّ كانت شعراً، وكان نصيب النثر فيه قليلاً. وعندما نقول إنَّ الشاعر الجاهليّ كان لسان حال قبيلته فهذا لا يعني أنَّ الشعر الجاهليّ اقتصر على  الدفاع عن مواقف القبيلة وهجاء أعدائها، بل كانت له موضوعات كثيرة منها الوقوف على الأطلال والغزل والرثاء، ووصف الصيد والليل والخيل.

أمّا المرحلة الثانية في تاريخ الأدب العربيِّ، وهي مرحلة أدب صدر الإسلام، فقد اتخذ الأدب لنفسه وظيفة أخرى تختلف عن وظيفته في المرحلة السابقة. فأصبحت وظيفته الدفاع عن المثل العليا التي نادى بها الإسلام، فحض الشعراء الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على عمل الخير والابتعاد عن الشرور.

ولقد ظهرت في الأدبين الأمويِّ والعباسيِّ وظائف جديدة للأدب لم تكن معروفة في المرحلتين السابقتين، فظهر غزل عمر بن أبي ريبعة (644-711م) الذي جعل النساء يتغزلن به بدلاً من أن يتغزل بهن، وظهر غزل من نوع آخر وهو الغزل العذري.

وبرزت في العصر العباسيِّ ظاهرة التكسب بالشعر، فمدح الشعراء الحكام من أجل الحصول على المكافأة المالية. فقد مدح أبو الطيب المتنبي (915-965م) كلاً من سيف الدولة الحمداني أمير حلب، وكافور الإخشيدي حاكم مصر. إلا أنَّه كان صادقاً في مدحه لسيف الدولة الحمداني، أمّا علاقته مع كافور الإخشيدي، فمدحه في البداية إلا أنَّه هجاه هجاءً مراً قبيل رحيله عنه في ليلة عيد الأضحى في قصيدته المشهورة التي يقول فيها :

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ

بما مضى أم بأمر فيكَ تجديدُ

لا تشترِ العبدَ إلا والعصا معهُ

إنًّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ

ونلاحظ أنَّ وظيفة الأدب العربيِّ في العصر الحديث قد تغيرت بتغير الظروف التاريخية، وهذا أمر طبيعي. فناضل الأدباء العرب ضد الاستعمار أثناء الاحتلال الفرنسيِّ والإنكليزيِّ والإيطاليِّ للوطن العربيِّ، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين.

ولا أريد ذكر أمثلة كثيرة من آداب عالمية، إلا أنني أؤكد أنّ وظيفة الأدب وظيفة ثابتة ومتغيرة في الوقت ذاته. فهي ثابتة إذ يقوم الأدب بتحقيق الفائدة والمتعة والتعبير عن النفس الإنسانية، ومن ثم التعبير عن المجتمع، لا بل الكون بكامله. ومتغيرة تتغير من مرحلة تاريخية إلى أخرى، فيكفي أن نذكر أنَّ وظيفة الأدب الروسيِّ بعد ثورة عام 1917 الاشتراكية أصبحت تختلف عن وظيفة الأدب قبل الثورة المذكورة.

العدد 1140 - 22/01/2025