دمـاء الجسد.. وجراح الروح

لا بد لأصحاب الأجنحة الكبيرة، من فضاء أوسع من أجنحتها.. وللسيوف القواطع من سواعد فولاذية، وللوجوه الجميلة من عيون تبصر أكثر مما ترى، وللعقول المبدعة من حدائق خالية من السوس والحشرات لزراعة أفكارها وتأملاتها بسلام، وراحة بال.

دائماً وأبداً، لا بد من شيء ما لحدوث ما يحدث..

فعل.. ورد فعل..

صوت وصدى.. برق ثم رعد، مطر وبعده نبت، زهر ثم ثمر، سكون وبعده عاصفة، غليان ثم ثورة البراكين وحدوث الزلازل.

فلكل شيء سبب ونتيجة.

فلا العجين ينضج إلا بعد الاختمار، ولا القنبلة تنفجر إلا بعد إشعال فتيلها، ولا اللغم يثور إلا بعد الدوس عليه.

وخلف كل موجة لا بد من بحر يرتجف، وبين كل غيمة وغيمة برق ينتظر، وتحت كل أرض نار تستعر.

إن الحمولة الزائدة سوف تغرق المركب، والخلافات الدائمة ستنتج مزيداً من الحقد والغضب.

وكل شجرة صبار لا بد من أن يوجد حولها جلد من الأشواك، وكل ورود جميلة سنرى إبراً كثيرة تحميها، ولا ينضج اللوز من دون مطر يسقي جذوره، وشمس تدفئ أوراقه، ولايتعاقب الليل والنهار على الأرض إلا إذا دارت، ولا تعطي الحقول سنابل القمح وثمار التين إلا إذا حُرثت جيداً، ورويت تربتها من مطر السماء.

وبقدر العمل، يكون العطاء، وبقدر صفاء النوايا نقترب من النبع والحقيقة.

لا أحد بمقدوره الوصول إلى قمة الجبل دون أن يبدأ التسلق من الوادي، وكل من وصل دون أن يدخل الشوك والحصى في جلده وقدميه، سينحني سريعاً ويتعب ويتهاوى، ما عدا الأفاعي والثعابين، فهي تستطيع الزحف متسلقة دون أن يدخل في لحمها الناعم أشواك الورود، وإبر الصبار.

إن القمم العالية تحملها الوديان السحيقة، أي: لولا الأعماق ما كان الارتفاع.  صحيح أن لكل شيء سبباً ونتيجة، لكن تبقى العبرة والاعتبار في المعنى، والغاية من الهدف الذي نسعى إليه، فوصول الأفاعي بأجسادها الملتوية الزاحفة إلى القمم العالية، وأعشاش الطيور، يختلف عن وصول العقبان والنسور! وليس ابتلاع الطعام كهضمه، ولا شم الورد كأكله، ولا الزحف كالطيران، ولا دموع العين كدموع القلب، ولا دماء الجسد كجراح الروح، ولا نصرة المظلوم كنصرة الظالم.

ومهما كانت الأحذية غالية وجميلة، فإنها لن ترفع من كرامة أصحابها، ولن تجعلهم من كبار القوم، (فابن النسر يعيش في قمم الأشجار والجبال، وابن الثعلب يعيش في جحور الأرض.. فسبحان الذي خلق بعض الناس كطيور السماء، والبعض الآخر كطين الأرض، كيفما تحركت يعلقون بحذائك!).

ومهما كانت الأزهار عطرة، والعقود ذهبية لامعة، فلن تصيّر من يتعطر بها، أو يطوّق أعناقه بها، من الشرفاء وأصحاب الوجاهات والكرامات، لأن الشرف والكرامة طبيعة وأصل، فهي تولد مع الإنسان كلون بشرته، وزمرة دمه، وهي مسألة فردية، أي أنها لا تورّث، ولا تحمل من جيل إلى جيل، فكم من الأجيال أساءت إلى أجدادها، وكم من الأبناء تمنّى أباؤهم لو أنهم لم يولدوا فوق وجه هذه الأرض!

وما أشبه البعض بالأمراض القاتلة، لذلك لقائهم لا نفتقدهم ولو غابوا العمر كله، وما أشبه البعض بالصحة والعافية، لذلك نحنّ في كل وقت إلى لقائم.

العدد 1140 - 22/01/2025