النخب والاستلاب الفكري

شهد القرنان التاسع عشر والعشرون نقلات علمية واقتصادية وفكرية في المراكز الرأسمالية الأوربية، جذبت إليها المبدعين من أطراف الكوكب على حد تعبير د. سمير أمين، وشكلت عاملاً صادماً للنخب التي وفدت إلى عواصم (النور والفرص والانفتاح والحقوق الإنسانية). ونتوقف عند نموذجين لموقف النخب تجاه السبق الحضاري الغربي في أوربا والولايات المتحدة. إذ تخلص النموذج الأول من تأثير الصدمة، وعقد العزم على امتلاك أدوات مشروعه النهضوي الذي سيجعل من وطنه قوة قادرة على التطور والانتقال من التخلف والإفقار والتبعية إلى الاستقلال والتنمية المتوازنة المستدامة. وقد عانى عديد من الخريجين العائدين من العواصم الغربية الأمرين من عسف الحكومات الكولونيالية، وتضييقها على أنشطة المفكرين والأدباء وأساتذة الجامعات، لأنها تتعارض مع امتيازات الحكومات التابعة، وتكشف نفاقها وفسادها، وانحيازها لخدمة مصالح الشركات الأجنبية، بدلاً من حماية الثروات الوطنية وإنفاقها لخدمة الأكثرية المفقرة.

ولم يخش أصحاب المشاريع النهضوية (في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية) الصعاب، وامتلكوا لغة تقودهم إلى التواصل  إلى درجة الاندماج  مع الفئات الشعبية الواسعة، وشكلوا قوة ضاغطة على الحكومات الكولونيالية، ووثقوا بقدرة أوطانهم على النهوض والتطور. ووقع النموذج الثاني في فخ الاستلاب الفكري والثقافي، وهاله أن يرى الفجوة العميقة بين الدول الصناعية المتقدمة وبين (المستعمرات السابقة). ووصل إعجابه بالنموذج الغربي إلى درجة جعلته يفك ارتباطه ببلده، ويحمل جنسية البلد المسؤول عن تخلف شعوب كثيرة ونهبها لعقود طويلة. وحين يُسأل عن مشروعه بشأن بلده وهو مقيم بعيداً عنه، ومستلب فكرياً، يقول: لا بد من انهيار الدولة القائمة، كي يتسنى لنا بناء نموذج شبيه لما هو قائم في البلدان المتقدمة، وكل تصور آخر للتطور محكوم عليه بالإخفاق. والغريب أن يقع كتاب مشهورون في فخ الاستلاب، وأن يعبروا في إبداعاتهم عن فكرتهم الضيقة لتغيير بلدهم. ومثال ذلك ما ورد في يوميات فيودور دوستويفسكي عن خلاف دار بينه وبين الكاتب الروسي الشهير إيفان تورغينيف. وقد دار حوار بين الرجلين في مقر إقامة تورغينيف بألمانيا. إذ أعجب تورغينيف بألمانيا إلى درجة تمنى فيها أن يزحف الروس أمام الألمان كي يتمكنوا من اللحاق بهم، وهو طريق حتمي للتطور أمام الجميع! وعبر عن رؤيته هذه في رواية (دخان) التي لاقت نقداً لاذعاً عند نشرها.

ولاحظ دوستويفسكي في رسالة بعثها إلى صديقه أبولون مايكوف في 16آب 1867 من جنيف يقول: قابلت في جنيف وباريس ولندن وبرلين كتاباً من روسيا يشتمون بلدهم ويتمنون انهياره، ويكرهون كل شيء فيه، ويحولونه إلى كاريكاتور. وإذا اكتشفوا أن هناك حقائق مخالفة لما يرونه ويستحيل دحضها فإنهم يشعرون بالتعاسة إلى أقصى حد. ومن هؤلاء تورغينيف، إذ لاحظت أنه مثله مثل جميع الذين يمكثون فترة مديدة خارج روسيا لا يعرف الحقائق بدقة (رغم أنه يقرأ الجرائد). وهؤلاء فقدوا كل إحساس ببلدهم. وبرأي تورغينيف أن النموذج الألماني هو الحضارة، وأن جميع محاولات (الروسنة والاستقلالية) ليسست سوى قذارة وحماقة. وله مقالات مطولة تندد بأصحاب هذه النزعة الضيقة، وقد رد دوستويفسكي عليه بقسوة وقال: هل تعرف النصابين والمحتالين الذين يمكن لقاؤهم هنا؟ والشعب هنا أقل شرفاً ونخوة منا وأكثر حماقة بما لا يدع مجالاً للشك فيه، وأنت تتحدث عن الحضارة، فماذا فعلت الحضارة لهم؟ وما هوالشيء الذي يمكنهم أن يتباهوا به أمامنا؟ وأضاف في رسالته: ونصحت تورغينيف أن يقتني تلسكوباً كي يرانا من باريس.

وسخرية دوستويفسكي من المتحمسين للنموذج الغربي المتقدم، وتبعيتهم له إلى درجة أن يفتخر أحدهم بحصوله على جنسية ألمانيا أو فرنسا أو سواها.. ويعلن كراهيته لبلده (المتخلف)، ويدَّعي في الوقت نفسه أنه يريد الخير لموطنه الأصلي، تنطبق على نخب مستلبة كثيرة في زمننا، تنعى بلدانها، وتعد انهيارها (الحتمي) شرطاً لتغيرها وانتقالها إلى الديمقراطية الغربية المتحضرة. وهي عاجزة عن فهم سمات الشعب الذي تنتمي إليه، ولا تمتلك القدرة على مخاطبته عن قرب، وهي تروج لنموذج لم تشغل نفسها بمدى تقبل شعب بلدها له، ولا تجد وسيلة لتحقيق رغباتها وأوهامها إلا (بشيطن) ما هو قائم والدعوة لتدميره بأية وسيلة، وهي مستعدة لتبرير كل تدخل عسكري خارجي يقوم بهذه المهمة، لأنها بحسب (تلسكوباتهم التي لا تخطئ) تفسح في المجال للنموذج الحضاري الذي أعجبهم إلى درجة (الانجذاب والاستلاب) كي يتحقق، و(للدولة الديمقراطية) أن تنهض من بين الحطام.

خليل البيطار

العدد 1140 - 22/01/2025