المازني… من الثورة المصرية إلى القومية العربية
يُخيل إلى من فتح عينيه على النصف الثاني من القرن العشرين أن مفهوم (الثورة) مفهوم يكاد يكون سياسياً صرفاً، فعلى الصعيد الاجتماعي تستبدل بتشكيلة اقتصادية اجتماعية أخرى غيرها، لكنها أرفع مستوى. ثم يسترسل…فيقول: بتحطيم جذري للنظام البالي وترسيخ مؤسسات اجتماعية جديدة -بالضرورة- أكثر تقدماً، ولا بد من مرحلة تحضيرية تقوم على (تأزم* االعلاقات الاجتماعية القادم حتماً من تصدع البنية الاقتصادية مما يُعيق تقدّم القوى المنتجة. وإن حدث هذا وذلك فالثورة تحتاج إلى تطور أسلوب الإنتاج الذي يُفضي أيضاً إلى الولادة التدريجية لطبقات جديدة كما في روما القديمة. فاستبدال العلاقات الإقطاعية بالعلاقات العبودية لم يكن ناتجاً عن انتفاضة الجماهير الشعبية في العوالم القديمة ضد الرق وحدها، إنما كانت هناك عوامل أخرى هي الأهم بعد سقوط روما بيد البرابرة عام 476م. وأما الفعل التاريخي فقد كان الصدام المباشر بين الطبقات المتناحرة .
فإبراهيم عبد القادر المازني (1889-1949) أديب ساخر واسع الاطلاع عميق التفكير السياسي (قياساً على أدباء عصره) أولاً: لأنه من منبت اجتماعي معوز كان مهتماً ب (الثورة)، والثورة تعني ما حدث عام1919 في مصر. والمازني كاتب وشاعر، إلا أن نثره أزاح شعره. وقد شارك العقاد في تأسيس مدرسة الديوان، وهي المدرسة النقدية التي واجهت الوضعيّة الإحيائية بنقد عنيف، لكنه فتح الآفاق بين الأدب والحياة الجديدة.
وعن الثورة المصرية كتب المازني مقالة عام 1935: ( كثيراً ما يسألني الشبان الذين لم يشهدوا الثورة المصرية -لأنهم كانوا أطفالاً- : هل كانت رائعة؟ فأقول: لقد بلغت غاية الروعة -في حدودها- ولم يكن في الوسع أن تكون فوق ما كانت، ولكنها فشلت -مع الأسف- لأنا أحطنا (قوميتنا) بمثل سور الصين، وأعتقد أن من خطل السياسة وضلال الرأي أن تنفرد كل واحدة من الأمم العربية بسعيها غير عابئة بشقيقاتها أو ناظرة إليها).
هنا -في هذا المقام- يتقدم سؤال يفرض نفسه، كيف تكون (الثورة) رائعة وكيف تفشل؟ من الجلي أن الأديب أو الشاعر كالمازني لا يستخدم فكرة (الثورة) إلا منزاحةً عن العمق الإصلاحي، فالانتفاضة الشعبية المصرية ضد عدوين مختلفين في الطبيعة متفقين في الاستبداد: الاستعمار العالمي والرجعية المحلية، فعل وطني وتاريخي، ولا يزال العدوّان يمارسان فعلهما الاستراتيجي في مصر وفي غير مصر… وعلى الرغم من رأي الأديب الناقد إبراهيم عبد القادر المازني فإن الثورة المصرية 1919 -إن كانت قد أُجهضت في المسألة السياسية – فإنها قدمت نجاحات (على المستويات الأخرى، فقد أفصحت الطبقة الوسطى عن نفسها كحامل اجتماعي تاريخي للثقافة المصرية الفاصلة بين المتشابهات: كالثقافة الإسلامية والعربية، وكالثقافة الوطنية والقومية، وكالثقافة الخارجية (الغرب) والداخلية الشرق.
أما أن يحيل الأديب المازني فشل الثورة – إن أقررنا ذلك- إلى تجزئة النضال ضد الاستبداد الداخلي والخارجي فهذا فكر قومي باكر رغم اتسامه بالسطحية والمباشرة، وما كان لهذا النوع من التفكير السياسي أن يكون جذرياً، إنما هو قادم من السطوح الإسلامية التي يُخيل إلى أصحابها أن التاريخ قابل للتكرار، وأن ما حدث في ظرف تاريخي تحت شرط خاص قابل للانبثاق من جديد وبالنوايا الطيبة. والأغرب أن الأقطار العربية زمن الثورة المصرية كان معظمها قد دخل تحت الوصاية الأجنبية… فكيف يظاهر المحتلُّ المحتلَّ؟
في حين كان شوقي يرى في حراك الثورة حراكاً شعبياً عميقاً تجاوز المألوف، وأن ذاك الحراك قاده رجال أشداء: سعد زغلول، علي شعراوي، عبد العزيز فهمي، وأن الأصالة الشعبية قد استجابت للنخبة السياسية المستنيرة في النضال الوطني:
نثرَ الكنانةَ ربُّها وتخيّرَتْ
يدُه لنصرتها ثلاثةَ أسهمِ
من كلِّ أعزلَ حقُّهُ بيمينِهِ
كالسيفِ في يُمنى الكميِّ المعلمِ
وتقدموا حتى إذا ما بلّغوا
أوحَوْا إلى مصرَ الفتاةِ: تقدَّمي
سالتْ من الغابِ الشَّبولُ غلا بها
لبنُ اللباةِ، وهاجَ عرقُ الصيغمِ
لينمْ أبو الأشبالِ ملءَ جفونِهِ
ليسَ الشبولُ عن العرينِ بنوَّمِ
ويتابع المازني في السياق القومي فيقول: (قد كان العلماء والفقهاء والأدباء يرحلون من بلد إلى بلد، ولا يحسون أنهم تركوا أوطانهم وتغربوا، ولا يشعرون أنهم اجتازوا حدوداً تفصل بين أقطار، وتعزل أمة عن أمة، ولو جبتم هذا الشرق لما شعرتم أنكم في غير مصر – إلا من حيث التقدم المادي- وكانت اللغة هي اللسان الذي لا يحتاجون إلى اتخاذ غيره في حيثما يكونون من هذا الشرق العظيم الذي تقسمونه اليوم أمماً وشعوباً، وتقولون هذا مصري وذاك فلسطيني أو شامي أو حجازي، وعلى أن القومية هي اللغة لا سواها. ولتكن الأصول البعيدة المتغلغلة في القدم ما شاءت، فما دام أن أقواماً لهم لغة واحدة فهم شعبٌ واحدس.
ينعطف المازني من مشكلة (الثورة) إلى فكرة (القومية) منطلقاً من (فشل) الثورة، واصلاً بين تاريخ دولة الخلافة الإسلامية من الراشدية إلى العثمانية، وبين حاضر الأقطار المجزأة. ولم يستطع أن يعزز رأيه إلا باللغة العربية، والعربية تهيمن على العربي المسلم لا من موقعها الوظيفي كلغة، إنما من موقعها الروحي على أنها الحامل للوحي، والوحي وما تلاه من مخرجات وحّدت شعوب المنطقة، والتي خصّها المازني ب (الشرق) تحت المسمى الجديد (الأمة). وهنا يُغيّب الانتماء العرقي لصالح الانتماء (الإسلامي). واللغة العربية اختزنت علوم المسلمين من غير العرب، كما اختزنت علوم العرب أيضاً، فكانت العامل الجامع بين شعوب دولة الخلافة تاريخياً. ولا تزال الجامع بين الشعوب العربية. وقد غالى رجال النهضة من ناثرين وشاعرين بقضية اللغة، فقد ارتأى خليل مطران (1872 – 1949) (أنّ الأمة التي تستخف بلغتها تبتلعها أمواج الفناء)، يقول شعراً:
إذا ما القومُ باللغةِ استخفُّوا
فضاعَتْ، ما مصيرُ القومِ قُل لي
وما دعوى اتحادٍ في بلادٍ
وما دعوى ذمارٍ مستقلٍّ
ومن اللافت البيّن انتباهة المازني الأديب الناقد إلى أهمية العامل الاقتصادي في تمكين العرب من الدولة القومية، على أن (الوحدة) التي يريدها للعرب لا يمكن أن تُبنى إلا على اقتصاد قوي. وهنا تغيب فكرة (الثورة) من مخيلته لتحل مكانها فكرة (القومية)، يقول: (ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهماً لا سند له من حقائق التاريخ لوجب أن نخلقها خلقاً، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة. إنّ مليون فلسطين إذا أضيف إليهم مليونا الشام وملايين مصر والعراق يصبحون شيئاً له بأس يُتقى. وهذه البلاد ما انفكت زراعية، والزراعة لا تغني الأمم كما تغنيها الصناعة. والمال سرُّ القوة، ولا سبيل إلى نشاطها إلا إذا فتحت أسواق مصر لجاراتها وأسواق الجارات إلى مصر… وإنما يتسع الميدان لصناعتنا إذا وجدت سبيلها إلى الشرق).
وفي هذا القول يغادر المازني موقع الأديب إلى موقع المفكر السياسي، فيرى في الاقتصاد الصناعي حلاً بديلاً. وقد كان هذا الرأي متقدماً في الطور الباكر من المخاض القومي، ولاسيما في مصر، كما حدث في المرحلة الناصرية. وهو يؤسس للحظة الانفصال التاريخي بين (الإسلامي) و(القومي). ويبدو المازني متأثراً -كغيره من رواد التجديد- بالثقافة الوافدة، وعلى الأخص بمشكلة التجمعات البشرية الكبرى، فكان يرى من حوله كيف تجاوزت الأمم الغالبة عوائق التوحد لتجد لنفسها طريقاً نحو الوجود. وعلى الرغم من قناعته بفشل الثورة المصرية (كما زعم) فإنّ تلك الثورة أقنعت الإنسان المصري بأنّه قادر على الوجود من دون الأمصار الأخرى. إلا أنّ المازني يستثمر (الثورة) ليوظفها حدثاً غير قادر على صناعة تاريخ جديد في الحرية والاستقلال ما لم تنتمِ مصر إلى محيطها، وما لم ينتم محيطها إليها.
ولعل حرصه على فكرة (القومية العربية) بديلاً من (الوحدة الإسلامية) هو الذي أنساه نجاح الثورة على المستوى الثقافي والعلمي والفني. وبالمقابل فقد حاول أن يؤسس حلم الوحدة أو القومية في الجيل الشاب، وهذا الجيل الذي أراده المازني مصرياً إلى حد، عروبياً إلى حد، وحدويّاً بغير حدود، يذكرنا بمحاولة الشاعر سليمان العيسى بعد أن أحبط من جيل الكبار في الفكر الوحدوي، عاد ليؤسسه في الأجيال الطفلية العربية عبر ما نظمه من شعر للأطفال، بصرف النظر عن رأينا الخاص بهذا الشعر.
ولعل المازني قد أضاء من غير قصد طريقاً لا يزال مسدوداً مظلماً، وهو طريق البنية الأحادية إلى التقدم والوحدة. فلا الأممية الإسلامية بطريق للخلاص ولا الجبرية العروبية بطريق هي الأخرى، إنّما الطريق هو مجتمع المؤسسات السياسية المفصحة عن تغاير البنى الاجتماعية وعن ضرورة التأزر بين التخالف والتغاير. فالمسألة الوطنية تغدو – كيفما تصرفت الحال- أولاً، ولا بدّ من الإفصاح في لحظة تاريخية فارقة عن انقطاع الحل القروسطوي (الإسلامي – المسيحي) عن الحركة المتصاعدة للتاريخ، ولعل أهم موارد الدولة الحديثة هي الكوادر البشرية المعلمنة لا المدجنة.