ثنائية الانفتاح والانغلاق

في عالم اليوم الذي تستبيحه وسائل الاتصال والإعلام المسموع والمقروء والمرئي، التي تُّكوِّن العقول، وتحدد أمزجة المتلقين، يصعب التقوقع والانغلاق، أو الوقوف في وجه ما يُصدَّر من حزم المعلومات والمعارف، والأفكار، والآراء، والاجتهادات، ونظم التفكير، والثقافات المتنوعة.

تكمن المشكلة في عملية الاستقبال والاختيار: ماذا نأخذ من المصدَّر إلينا بكل ما يحمل من بريق التسويق والتشويق، وماذا نرفض..؟

لقد أصبح الدخول في عولمة المعرفة قدراً لا مهرب منه، والمواجهة لا يمكن أن تكون بإخفاء الرأس في الرمال، وتجاهل المؤثرات وخطورتها على تكوّن الشخصية الوطنية اجتماعياً ومعرفياً، مع الاعتراف بأن ظروف المجابهة تفتقر إلى أبسط شروط العدالة وفق قانون التطور غير المتكافئ للدول والشعوب، بله الهوة السحيقة الفاصلة بين الدول المتقدمة والدول المخلَّفة.

 عملية الاستقبال تخضع لأسس ومعايير تمليها متطلبات الحاضر واستحقاقات المستقبل، وهذه تحددها الإرادة والرغبة في الماهيات التي نسعى إلى تكوينها، والمرتكزة على معرفة من نحن، وما نريد أن نكون؟ وهذا يعيدنا إلى طرح سؤال الهوية، في علاقاتها المتشابكة مع الآخر. لأن معرفة الأنا تشترط معرفة الآخرين. والموقفُ من مسألة الهوية وتحديدها، يتعلق بفهمنا لها. هل هي منجز متشكل منتهٍ، أم هي قيد التشكل والصيرورة؟ هل هي في الماضي أم أن محدداتها مرهونة بخيارات المستقبل؟

ثمة ثلاثة مواقف من هذه العملية المتداخلة والمعقدة، والتي لا خيار لنا فيها، فقد أصبحت من الضرورات التي لا يمكن القفز فوقها، أو تجاهلها.

الموقف الأول: يقول بالانفتاح على العالم بكل أرجائه دون قيد أو شرط، وعلى كل ما يصدر وما ينتج دون غربلة أو تحليل لما هو مفيد وما هو ضار. والحجة أن الدخول في العصر، يتطلب التسلح بأدواته، ومن أهمها العقل العلمي، والتقدم التقني، والاستخدام الأمثل لكل منجزات التكنولوجية الحديثة، والتعامل مع المنظومات الأخلاقية والقيمية المحددة للمجتمعات، والتي تشكل خصوصيتها وتعيِّنُ ماهيتها، وهنا يستحيل الفصل بين التقدم العلمي ونتائجه الأخلاقية والقيمية.

الموقف الثاني: يدعو إلى إغلاق الأبواب والاحتماء بالخصوصيات والموروث، خوفاً عليهما من الضياع والذوبان تحت وهج وقوة وجبروت ما تنتجه الآلة المتقدمة في الدول المتطورة. والسد المنيع هنا هو الاحتماء والتسلح بالأصالة، كما تفهمها وتمارسها القوى السلفية المدعية حق امتلاك الموروث التاريخي. أما الأصالة كما نفهمها فهي في معرفة جوهر اللحظة التاريخية والدخول فيها، والتعامل معها وفق احتياجات الخصوصيات المكونة لماهيتنا، بعد التحرر من عقدتَيْ الإحساس بالعجز (القصور الذاتي) المفضي إلى الدونية الحضارية، والتي هي الوجه الآخر للإحساس بالاستعلاء والتفوق المستند إلى مآثر الماضي، الذي لا يمكن استعادته.

مما لا شك فيه، أن التفكير العلمي منجز إنساني، ساهمت فيه شعوب الأرض كل بقسطه، وفي لحظات تاريخية محددة. والأخذ به ليس منة ولا فضل فيه لأمة أو شعب على آخر، فالعقل واحد، وإنما هناك عقليات وفترات تقدم هنا، وتراجع هناك، وفق صيرورة الحضارة الإنسانية وتطورها، فما كان متقدماً في الماضي، أصبح متخلفاً اليوم، وقد يحدث العكس عندما تتوفر الشروط المناسبة لإحداث انعطاف في التطور التاريخي للأمم والشعوب.

وثمة موقف ثالث يقول: علينا أن نتخلص من الثنائية الضدية القاتلة المبنية على أساس الانفتاح المطلق أو الانغلاق المطلق، بالانتقال إلى النسبية والتعامل على أساس التقاطع والالتقاء، بين الوافد بعد غربلته، وبين المحلي بعد تخليصه مما علق به بفعل التقادم والثقل التاريخي، في عملية تخصيب وتفاعل خلاق، يحافظ على التنوع والاختلاف، ويخدم الخصوصية لنصل إلى مُركَّب جديد يأخذ بأفضل ما في القديم من مكونات وعناصر، مستمرة في الحاضر، وقابلة لخدمة المستقبل. فليس كل قديم مرفوضاً، وكذلك ليس كل جديد ينفي القديم ويميته، لا بد من الإمساك بلحظات التعايش الفاعلة في عملية الصراع بين القديم والجديد.

عملية التفاعل والمشاركة متوقفة على طبيعة القوى الفاعلة، والمحركة، والقائدة لفعل المثاقفة التي تمليها الضرورات المستقبلية. فلا حياة لشعب من الشعوب يغلق أبوابه ونوافذه أمام الرياح القادمة من الشعوب الأخرى. كما أنه لا حياة لشعب أو أمة لا تمتلك أرضية ثقافية ومعرفية تستند إليها في عملية استقبال وتوطين ما ينتجه العالم من ثقافة وفكر ومعرفة، هذه الأرضية متوفرة وزاخرة في ثقافتنا العربية، وما علينا إلا إحياؤها ونفض الغبار العالق ببعض مكوناتها.

العملية في مرجعيتها الأخيرة تستند إلى تأصيل الحديث واستزراعه في تربتنا، وتحديث الأصيل بتخصيبه وانفتاحه على إنجازات شعوب العالم، بلا خوف أو تردد.

 المعرفة قوة، وإلهاء الشعوب وإعادتها إلى ما عفا عليه الزمن وأصبح من مخلفات الماضي، لا يعيق التقدم نحو المستقبل فقط، وإنما يفتت القوى الحية في المجتمعات، ويصرف انتباهها عن قضاياها المصيرية التي يأتي في طليعتها التحصيل العلمي والتقدم المعرفي الذي لا يمكن امتلاكه إلا بالانفتاح على المنجز الإنساني المشترك في جميع مجالاته المعرفية. فلا حرية بدون وعي، ولا ديمقراطية مع التخلف الحضاري، ولا عدالة اجتماعية بدون مناهج وبرامج علمية لتحقيقها.

العدد 1140 - 22/01/2025