الفكر السياسي والواقع وإشكالية سياسة الرغبات والعواطف
لا شك في أن شعبنا السوري هو شعب مسيّس. ولا نجد أي فرد تقريباً لا يحدثك في السياسة سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. إن هذا الأمر يعكس اهتماماً محدداً بما يجري في البلاد وعلى الصعيد العالمي. أي، إنه يعكس وعياً ما. بيد أن الآراء السياسية لا تعني بأي شكل من الأشكال السياسة. فالسياسة شيء والآراء السياسية شيء آخر.
إن جزءاً كبيراً من شعبنا لم يرتق في مسألة آرائه السياسية إلى مستوى الفكر السياسي حسب اعتقادي. إذ لا تزال الآراء السياسية في كثير من الأحيان، رهن العواطف والتأثيرات الشخصية من هنا وهناك. أي، إن آراءه السياسية هي انعكاس آني لا أكثر ولا أقل. وهي ليست فكراً سياسياً يعبر عن أمور استراتيجية محددة. ولتوضيح هذه النقطة، لا بد من طرح السؤال الكبير التالي:
– ما هي السياسة؟
ونجيب: إن السياسة ليست رفاهاً فكرياً أو تسلية ما. إن السياسة، هي علم من العلوم الاجتماعية. فهي تعكس مصالح اجتماعية محددة، وترتبط ارتباطاً عضوياً بالاقتصاد. لا توجد سياسة منفصلة عن العلاقات الاجتماعية والاقتصاد. وكما نعلم، هناك تلاوين سياسية. ولكن هذه التلاوين، خاضعة للمعيار نفسه. فهي تعكس التباينات الفئوية في الطبقات الاجتماعية المحددة. إذ من المعلوم أن أية طبقة اجتماعية، إنما هي تتألف من فئات مختـلفة لها مصالحها الخاصة الموجودة ضمن إطار المصلحة العامة الكبرى لطبقتها. كأن نقول مثلاً: هناك برجوازية صناعية.. تجارية.. زراعية.. كومبرادور.. وغير ذلك. أو، عندما نقول: إن المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، قد عكسوا مصالح الطغمة المالية العسكرية النفطية في أمريكا، في الوقت الذي يعبر فيه الديمقراطيون، عن مصالح فئات أخرى من البرجوازية. من هنا رأينا، أن المحافظين الجدد كانوا أكثر عدوانية في سياساتهم الخارجية مما نشاهده اليوم مع الديمقراطيين. أي، إن التلاوين في السياسة، تعكس التلاوين الفئوية في هذه الطبقة الاجتماعية أو تلك. ومن هنا، تنشأ التقسيمات السياسية عادة في الأحزاب. يقال مثلاً: إن حزباً ما يمثل يمين اليسار. أو، يمثل يسار اليمين. أو.. الوسط…وهكذا.
وباختصار: إن السياسة تعكس مصالح اجتماعية محددة، ولا يمكن الحديث عنها بمعزل عن ذلك. وكذلك، لا يمكن تفسير الإجراءات السياسية التي تتم بمعزل عن هذا الأمر، كالمراسيم والقوانين التي تصدر بصورة عامة.
إن تحديدنا لمفهوم السياسة، يقودنا إلى أمر آخر لا بد منه. وهذا الأمر، هو ضروري جداً بالنسبة للجميع، سواءً الأحزاب السياسية أو الأفراد. وهو الفكر السياسي. فما هو هذا الفكر؟
إن الفكر السياسي، يستند إلى عملية التحليل المادي الملموس لجميع التدابير والوقائع السياسية التي تجري في هذا البلد أو ذاك، هو تحليل لواقع جميع الفئات الاجتماعية للبلاد ولمصالحها الملموسة وتلاوينها المتعددة وتجاذباتها المختلفة. أي، إن الفكر السياسي، يستند إلى تحليل السياسة بالارتباط مع الواقع الاجتماعي بصورة عامة، وذلك، من أجل الوصول إلى استنتاجات صائبة. ودون ذلك، فإن أي حديث عن السياسة، هو حديث لا أهمية له. إن الارتقاء إلى مستوى الفكر السياسي هو أمر ضروري للأحزاب والحركات السياسية، وخصوصاً، التقدمية منها، يجنّبها الكثير من المطبات والأخطاء.
وباختصار: إن الارتقاء إلى مستوى الفكر السياسي، إنما يساعد هذه الأحزاب والحركات السياسية، في الوصول إلى استنتاجات صائبة. وهذا ما يفيدها في رسم استراتيجيات سياسية من خلال فهم ملامح التطور في هذا البلد أو ذاك. أي، يجعلها تصل إلى تقويمات دقيقة عن الواقع، وتضع الحلول الضرورية التي تفسح مجالاً أرحب لتطور إيجابي. ولكن، للأسف، فإن العمل السياسي، خصوصاً في بلداننا، يتسم بطابع ارتجالي غير مؤسس، وغير مبني على وقائع مادية عميقة. وهذا ما يجعل الاستنتاجات، في كثير من الأحيان، استنتاجات مبنية على الرغبات والعواطف وليس على الوقائع. فما أحوجنا الآن، إلى الارتقاء إلى مستوى الفكر السياسي الذي يجعلنا نتعامل مع الواقع كما هو، دون إضافة أوهامنا على هذا الواقع.
فمستوى الخطاب السياسي القائم حالياً، هو مؤشر إلى مستوى وعينا الاجتماعي الذي لا يزال أدنى من مستوى التطور العالمي الذي يجري بشكل عاصف. ولم يبق أمامنا، إلا أن نبذل الكثير من الجهود كي نلحق بسير التطور العاصف الذي يتسم به القرن الحادي والعشرين.