الشرعة الدولية واتفاقياتها ومعاهداتها في مهب رياح الأزمة السورية

جاء في تعريف مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسانOHCHR) ) إن حقوق الإنسان كما نعرفها اليوم هي حقوق عالمية ويعود تاريخها إلى العديد من الصراعات. اتسمت تلك الصراعات بالعنف، ولقي الكثير من الناس حتفهم فيها. لكن الأمر استلزم حربين عالميتين ومجزرة جماعية حتى تخرج حقوق الإنسان كما نعرفها اليوم إلى النور).

حقوق الإنسان حقوق متأصلة في جميع البشر، مهما كانت جنسيتهم، أو مكان إقامتهم، أو نوع جنسهم، أو أصلهم الوطني أو العرقي، أو لونهم، أو دينهم، أو لغتهم، أو أي وضع آخر. إن لنا جميع الحق في الحصول على حقوقنا الإنسانية على قدم المساواة ودون تمييز. وجميع هذه الحقوق مترابطة ومتآزرة وغير قابلة للتجزئة.

يعود التفكير بحقوق الإنسان إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر. فقد ظهرت الحقوق الإنكليزية عام 1689 والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن عام 1789 ودستور الولايات المتحدة وشرعة الحقوق عام 1791 وقد تحدثت جميعها عن حقوق الإنسان. لكنها لم تكن قوانين عالمية، بل كانت قوانين وطنية تعكس سياسة بلدانها وثقافاتها وقيمها في تلك الأوقات.

غير أن وحشية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أدت إلى إنشاء عصبة الأمم التي حاولت تناول حقوق الإنسان والأقليات وتنظيم العلاقات بين الدول ومنع نشوب الحروب. ومع ذلك، انهارت عصبة الأمم بسبب إحجام القوى العظمى في العالم عن الانضمام إليها.

بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي شهدت إبادة جماعية وغيرها من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، وبعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها في عام 1945 حشدت قوات الحلفاء المنتصرة بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق المجتمع الدولي من أجل إنشاء منظمة من شأنها أن تعزز السلام وحقوق الإنسان. فجاء تأسيس الأمم المتحدة عبر الوثيقة التأسيسية التي تمّ توقيعها في سان فرانسيسكو في 26 حزيران عام 1945. وهذا الميثاق يُعتبر أعلى سلطة في القانون الدولي عبر معاهدة متعددة الأطراف، ما يعني أن هذا الميثاق يتجاوز أي معاهدات أو اتفاقات أخرى توقعها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وقد وقعت عليه 51 دولة.

واليوم، يبلغ عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة 193 دولة – وهي كل بلدان العالم باستثناء الفاتيكان- وكل واحدة من هذه الدول ملزمة قانوناً بأحكام ميثاق الأمم المتحدة وتعترف بسلطة ميثاق الأمم المتحدة في القانون الدولي.

وقد أعقب هذا الميثاق عدد من العهود والإعلانات والاتفاقيات العالمية لحقوق الإنسان، وشكّل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلى جانب الاتفاقيتين – العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية مناهضة العنف والتمييز ضدّ المرأة- سيداو – والعديد من الاتفاقيات المشابهة- الشرعةَ الدولية لحقوق الإنسان التي صيغت لاحقاً وفق ما يُعرف بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، وهو مجموعة من القوانين التي تحمي وتعزز حقوق الإنسان، فهو يحدد التزامات الدول في مجال حقوق الإنسان. وبالتوقيع على معاهدة ما، توافق الدولة على أن تكون مُلزَمة بالمعاهدة قانونياً باحترام حقوق الإنسان المنصوص عليها في المعاهدة وحمايتها وتطبيقها. وقد ترتّب على مجمل هذه الأمور أنه بمجرد أن توقع أي دولة على معاهدة دولية، يتعين على حكومتها أن تتخذ خطوات لضمان أن يكون النظام القانوني الوطني لديها متفقاً مع المعايير المنصوص عليها في المعاهدة. ويعني ذلك أنه يجب على الدول وضع حدود لسلطتها فيما يتعلق بحقوق مواطنيها.

وبالفعل فقد قامت كثير من البلدان بإدراج حقوق الإنسان على أساس الإعلان العالمي في دساتيرها وقوانينها الوطنية. غير أن مسألة الإنفاذ ظلّت مثيرة للجدل، ويتمثل أحد الانتقادات الرئيسية التي توجه للأمم المتحدة، لاسيما فيما يتعلق بحقوق الإنسان، في أنها تفتقر إلى القوة اللازمة.

يتضح مما سبق أن البشرية احتاجت بعد حربين عالميتين إلى قوانين ومعاهدات تخفف من معاناة الإنسان على كوكب الأرض، بعد أن لقي ما لاقاه خلالهما بحكم سيطرة نفوذ الدول الاستعمارية على العديد من مناطق العالم من أجل إيجاد الأسواق اللازمة لعمل رأس المال لديها. وللأسف، مع أننا في القرن الـ 21 الذي يفترض مع التطور الهائل لحياة الإنسان في جميع المجلات والميادين، أن نكون قد وصلنا إلى مستوىً مقبول من العدالة الإنسانية والاجتماعية سواء بين الدول، أو في الدولة الواحدة ما بين السلطة ومواطنيها، إلاّ أننا ما زلنا نشهد في الوقت ذاته صراعات وعنفاً في إطار الدولة الواحدة ما بين الأنظمة ومعارضيها، كما نشهد ونعيش صراعات وحروباً تنتهك في كل لحظة ليس فقط حقوق الإنسان وسيادة الدول، وإنما حياتنا المعرضة أبداً للموت المجاني والدمار الهمجي لمجمل مظاهر الحياة دون أدنى اعتبار لإنسانيتنا، لاسيما تلك الشعوب الواقعة في بلدان ما زالت ضمنياً تحت نفوذ الدول الاستعمارية وسيطرتها بشكل غير مباشر (الدول العربية) بحكم ثرواتها وسواها، ابتداءً من فلسطين التي ما زالت منذ 67 عاماً ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي الهمجي بكل سلوكياته الوحشية المعروفة عبر هذا التاريخ حتى يومنا هذا، مروراً بالسودان وليبيا ولبنان والعراق وصولاً إلى سورية اليوم التي تشهد أعنف وأشرس حرب شهدتها البشرية ما بعد الحرب العالمية الثانية، في خرق فظيع ومروّع لكل مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان برمتها، وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع دون أن يحرّك هذا الواقع المأساوي ساكناً لدى المجتمع الدولي سوى الإدانة والاستنكار وتقديم بعض المنح والمساعدات للملايين من اللاجئين والنازحين في الداخل والخارج، مساعدات يتكرر التهديد بين الحين والآخر بقطعها لعدم وجود اعتمادات تغطي الحاجة الفعلية للأعداد المتزايدة من السوريين في ظل تلك الحرب المستمرة، في حين نجد أن الدعم المالي والعسكري للأطراف المتصارعة مستمر بالتدفق لتأجيج تلك الحرب إلى أمد مجهول بحكم المصالح والسياسات الدولية المسيطرة على المنطقة.

لقد شهدت الحرب السورية أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان بكل مكوناتها، كما جرى انتهاك الطفولة السورية بشكل لم تشهده باعتقادي أعتى الحروب، والأرقام الدولية تشهد على هذا الواقع الفظيع والمرير الذي يُعانيه أطفال سورية في الداخل والخارج، مما أدى إلى موت أعداد غير قليلة منهم بسبب تلك الحرب إضافة إلى البرد والجوع بحكم التشرد والنزوح وفقدان المقومات الأساسية للحياة، وهذا الواقع بكل ما فيه خرق واضح وصريح لاتفاقية حقوق الطفل الدولية والإعلان العالمي لحقوق الطفل دون أيّة مساءلة أو محاسبة دولية نصّت عليها الاتفاقيات المُلزِمة.

كما واجهت المرأة السورية منذ اليوم الأول لاندلاع تلك الحرب أقسى الإهانات والانتهاكات من الموت والقتل والخطف والاغتصاب والاعتقال والزواج القسري لطفلات لم تتبرعم أنوثتهن بعد، إضافة إلى مقتل أبنائها وزوجها، أو اغتصاب بناتها أمام عينيها دون مقدرة على الدفاع والمواجهة، وطبعاً الحديث يطول عن مجمل الواقع العنيف الذي تعيشه معظم النساء السوريات، وفي كل هذا بالتأكيد انتهاك واضح ورفض لمجمل ما جاءت به اتفاقية مناهضة العنف والتمييز ضدّ المرأة، كما أنه انتهاك خطير وشائن لاتفاقيات جنيف المعنية بحماية الأطفال والنساء والمدنيين زمن الحرب.

إن ما شهده المجتمع السوري عموماً من خراب وتدمير وموت مجاني لم يُحرّك لدى المجتمع الدولي برمته سوى التنديد والاستنكار الضعيف من باب رفع العتب فقط، وحتى المجتمعات الإنسانية في عموم الدول لم تتحرك تحركاً كافياً لرفض ما يجري في سورية أو حتى في غزة- فلسطين، بينما على مساحة المعمورة بأكملها وبضمنها زعماء الدول العربية الموقّرة أدانوا واستنكروا ماتعرّضت له فرنسا من هجمات إرهابية مؤخراً، وخرجت المسيرات المليونية المناهضة لتلك العمليات والتي تطالب بمحاكمة المجرمين بشدة لا هوادة فيها، وقد شارك بعض الزعماء العرب في تلك المسيرات، علماً أن الإرهاب الذي تشهده مختلف مناطق العالم هو صنيعة الغرب، وبشكل أكثر تحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، ابتداءً من أفغانستان إلى العراق وصولاً إلى سورية.

بالتأكيد نحن نرفض كل أعمال الإرهاب والعنف في أيّ مكان من العالم، لاسيما حيال المدنيين والأطفال والنساء، لكن المؤسف في الأمر، والذي يزيد قهرنا حدّة، هو الكيل بمكيالين لدى تعامل المجتمع الدولي والإنساني عموماً في أية قضية قد تطول الإنسان في دولنا أو غيرها من دول الغرب. ورغم علمنا بالنوايا المضمرة للدول الكبرى والمجتمع الدولي، إلاّ أنه قد اتضح بشكل فج وقذر وعلني بعد ضربات فرنسا أن الموقف الدولي من المسألة السورية هو موقف سياسي محض وبامتياز، بمعنى أن الدول الكبرى لا تريد لأزمتنا وحربنا أن تنتهي ما دامت هناك مصالح لهذه الدول، وبضمنها إسرائيل، تقتضي استمرار الحرب لدينا.

وبعد كل هذا، وفي ظل وجود قانون دولي لحقوق الإنسان، يأتي السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بإلحاح: هل استطاعت كل هذه الاتفاقيات والمواثيق والمعاهدات والعهود الدولية أن تصدّ الظلم والقهر والموت الذي تتعرض له ملايين البشر يومياً في أنحاء متفرقة من المعمورة- وسورية ضمنها..؟ هل فعلاً بإمكان تلك الشرعة أن تحاسب مرتكبي الجرائم المتعددة والمتنوعة على ما ارتكبوه بحق بشر لا ذنب لهم سوى أنهم ضعفاء أمام جبروت أولئك المجرمين..؟

ألا يظهر للمجتمع الدولي عموماً، وللأمم المتحدة خصوصاً أن مجمل الشرعة الدولية بكل معاهداتها وإعلاناتها ومبادئها واتفاقيتها كانت في مهب الريح فيما يخصُّ الحرب في سورية..؟

أجل، إن كل ما ذُكر من اتفاقيات وعهود ومواثيق وشرعة دولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة قد أصبحت أوراقاً مبعثرة في مهب رياح الأزمة السورية العاصفة منذ أربع سنوات، وذلك خدمة لمصالح دول لا تقيم وزناً لا للإنسان ولا لحقوقه التي ينتهكها رأس المال والمصالح السياسية والاستعمارية.

العدد 1140 - 22/01/2025