بول فاليري… عميقاً من الفكرة للقصيدة
كان على بول فاليري، أحد قمم الشعر الفرنسي الحديث، أن يستقل تماماً عن أسلوب أستاذه، وملهمه: مالارميه.. ذات يوم، بعد أن غاص عميقاً في ذلك الأسلوب، وكان قد استوحى الدلالات والرموز ذاتها،في قصائده، تلك التي كان قد أرسى قواعدها مالارميه شاعر فرنسا الأكبر والأهم، في تاريخ الحركة الشعرية المعاصرة، وربما كان هذا عند بول فاليري في البداية، إذ توزع همه الفكري بين مالارميه شعراً، وهيرمان الكاتب والروائي الرمزي رؤية، إعجاباً برمزيته الحادة.
ثم كان على فاليري أن يتوقف عن كتابة الشعر فترة من الزمن امتدت من عام 1898 إلى عام ،1917 إذ كان عليه، في تلك الفترة، أن يخوض كثيراً في الجانب العقلي، الذي كان يشكل الجانب الأهم والأعمق لديه آنذاك: دراسة، وتحليلاً، وتنقيباً في تلك الظواهر الغيبية التي لازمته طوال حياته، وهو يحاول تفسير بواطنها وخفاياها، لتصبح بالتالي، جزءاً مهماً، وحيوياً في شعره الذي رسم خطه الثنائي التركيب من البدايات. قد تجلى هذا كله في قصيدته الغامضة، والمتميزة، والتي حددت معايير شعره، ونمط قصائده التالية.والقصيدة تلك هي: إلهة القدر الشابة، التي تشكل خطاً بيانياً لما هو: حد الأفق بين غيبيات العزلة السماوية، وما تخفي، وغرائب الموت والحياة، والجسد، وما ترسم ظواهرها في الحياة، وما تترك تلك الظواهر من أثر لدى القراء والنقاد.
حول هذا كله، حاول الدكتور الناقد عبد الغفور مكاوي في كتابه (ثورة الشعر الحديث)،أن يضع تفسيراً معقولاً، ومنطقياً للغاية لكل البواطن الغامضة، والخفية في شعر بول فاليري والمرمز كلياً في قصيدته: إلهة القدر الشابة.إذ يقول د. مكاوي في تفسيرها: (إنها مونولوج.. يواجه مشكلة الاختيار بين عزلتها السماوية، ومسؤوليتها الأرضية)، وقيل: (إنها رحلة في مجاهل الوعي الإنساني بين غرائب الموت والحياة..).
ومن ناحية ثانية، فقد قيل: (إنها أحلام شاعر راقد في فراشه)، وقد تكون القصيدة شيئاً من هذا كله، وقد لا تكون. إنها، بطبيعتها، لا تقبل التحديد في شكل معين، ولا تقرر موضوعاً، بل تحدث أثراً، وتشير إلى حالة.
وربما لا نبعد عن الصواب كثيراً إذا قلنا: (إنها حالة صراع واجهه الشاعر نفسه، وألبسه هذه الرموز الغائمة، وهذه الأسطورة الغامضة: (أنصتْ../ لا تطل الانتظار../ السنة التي تولد من جديد، تنبئ دمي كله بحركات خفية/.. الثلج يسلم في أسىً درره الأخيرة/ غداً على تنهيدة من عقود الحنان، الساطعة كالنجوم، يأتي الربيع ليكسر أختام الينابيع، الربيع المدهش يضحك.. يغتصب، لا يدري أحد من أين يجيء ؟! لكن الصفاء يسيل من كلمات بلغت من العذوبة أن يشد الحنان الأرض من أحشائها!
الأشجار التي عادت، فانتفخت، وتغطت بالقشور، وأثقلت بأذرع كثيرة/ وآفاق بلا عدد، تحرك أصواتها الراعدة تجاه الشمس، ترتفع في الهواء المر بأجنحتها كلها/.. من أوراق بالآلاف تحس بحدتها!
أوَلا تسمعين حفيف هذه الأسماء الهوائية أيتها الصماء؟! وفي الفضاء المثقل بالأغلال، المهتز.. المرتجِّ بالغابة الحية الملتوية عند الأطراف، تجدّف الشجرة الطيّعة باتجاه الآلهة، وعكس اتجاهها/ الغابةُ الطافية، التي تحمل جذوعها الغليظة في خشوع إلى جباهها المتقلبة الهوى/.. عند البدايات المشقوقة لجزر الأرخبيل الفخمة ، نهراً رقيقاً إيه يا موت! ومخفياً تحت الأعشاب).. (1917)!
لقد اخترنا هذه المقتطفات من قصيدة: (إلهة القدر الشابة الربيع ) لبول فاليري، لأن تلك المقتطفات تمثل الاتجاهات النفسية، والعقلية، والعاطفية كافة لدى الشاعر فاليري، كما تمثل الصراعات الداخلية جميعها، التي تتطرف فيها: (بين المواقف الوجودية المتنوعة، والمتشعبة، والمغرقة بين الذاتي والتأملي والمطلق، وترسم عمقاً غاصاً بالتناقصات الحادة، وإشكالية الوجودي اللاواقعي، والمطلق اللامحسوس).. حيث يصبح التنافر بين الدلالات الحسية، والمبهمة غاية، في حالة ترقى باطناً إلى ما فوق حدود التصورات البشرية وفوق حدود معقول الخيالات، وتهبط ظاهراً، حتى تلامس حدود اليومي المعيش، ولكن بصيغة الفصول التي تحمل بهاءها، وكآبتها للنفوس، وفقاً لأمزجتها الطارئة، المتغيرة: صعوداً، وهبوطاً، وفق التجليات الغامضة، والمثيرة جداً، والحادة للغاية!