النوبلي ماركيز مشتغلاً بالصحافة «أفضل مهنة في العالم»
لم يأتِ الكاتب الكولومبي العالمي غابرييل غارثيا ماركيز إلى الصحافة بدافع من الحاجة أو المصادفة، وإنما في حركة إرادية، كما يروي في مقابلة أجراها معه (راديو هافانا) في عام 1976. يومذاك أكد صاحب (مئة عام من العزلة) أن الصحافة تعلُّقٌ مبكر ووحيد ولا غنى عنه، كأن الأدب جاء امتداداً لها. والحال أن تكريم ماركيز بجائزة (نوبل للآداب) في عام 1982م شمل دوره الصحافي والكتابيّ في آن واحد، ولم يبخل خطاب (الأكاديمية الأسوجية) في استوكهولم في امتداح (صحافي ناشط جداً وخصب جاءت نصوصه ابتكارية ومستفزّة أحياناً ولم ترتضِ بالتيمات السياسية فقط).
وقد تعرّف القراء في أصقاع المعمورة إلى جوانب عدة من العمل الصحافي لصاحب (الحب في زمن الكوليرا)، عن طريق سلسلة تقارير بأسلوب قصصي نشرت عام 1955 في صحيفة (إيل اسبيكتادور) عنوانها (قصة غرق)، إذ روى حكاية بحّار باسم (لويس أليخاندرو فيلاسكو) اعتقل عشرة أيام في بحر الكاريبي، من دون مأكل أو مشرب. كما دخل عالم الاتجار بالمخدرات أيضاً حيث العنف عملة رائجة، في نص (حكاية اعتقال). لكن الجزء الأكبر الباقي من منجزه، وهو كناية عن مئات المقالات والتعليقات والمقالات بدءًا من عام 1948 عندما بدأ مراسلة صحيفة (إيل أونيفرسال دي كاراتاخينا)، لم يتمتع بالاعتراف المستحق.
وقد مشى صاحب (الجنرال في متاهة) من الصحافة إلى الأدب. وفي دفع منها غادر بلاده ووصل إلى القارة القديمة أوربا مراسلاً، لينتقل بعد ذاك إلى فنزويلا وكوبا في مطلع الثورة الكوبية، فإلى أمريكا اللاتينية قبل أن يقصد نيويورك صحبة أسرته، حيث اشتغل في مكتب وكالة (الصحافة اللاتينية) التي أطلقها النظام الكوبي الحديث. عند ابتعاده من الصحافة وجد الشجاعة ليجتاز الحدود الأمريكية في اتجاه الجنوب ويستقر في المكسيك، حيث أخذ فترة سماح من الصحافة لأعوام أنجز خلالها روايته المرجعية (مئة عام من العزلة). لكنه تحبّب إلى الصحافة مجدداً في التزام سياسي لا لبس فيه واندفاع لافت، فوقّع كمّاً من المقالات وأنشأ مجلتي (الترناتيفا) و(كامبيو) في كولومبيا.
وفي سيرته الذاتية (نعيشها لنرويها) يذكر (ماركيز) إحدى عشرة مرة رئيس تحرير صحيفة (إيل اسبيكتادور) (خوسيه سالغار). في حين لا يتسنى (لسالغار) نسيان صحافي شاب ابن عامل التلغراف وفد إلى مكتبه في عام 1953 تكلله هالة أدبية. صحّح نصوص المتدرّب بالقلم الأحمر، من دون أن يعي أنه سيقطف بعد 29 عاماً أرفع التكريمات الأدبية.
عصاميون يفتحون أبواباً في الحياة..
كان آخر ما وصلني من أعمال ماركيز كتابه (ما جئت لإلقاء خطبة) الصادر عن (دار روافد للنشر والتوزيع) في القاهرة (طبعة أولى 2011)، الذي عرَّبه من الإسبانية أحمد عبد اللطيف، والذي يضم 22 خطبة، من أشهر الخطب التي ألقاها ماركيز في العديد من المناسبات، على جمهوره، بدءًا من الخطبة التي كتبها في سن السابعة عشرة، لتوديع زملائه في الصف الأكبر منه عام ،1944 وانتهاء بالخطبة التي قرأها أمام أكاديمية اللغة وملك إسبانيا عام ،2007 مروراً بخطبة تسلمه (جائزة نوبل للآداب) في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر ،1982 و(كيف بدأت الكتابة)، و(زجاجة في البحر لأجل إله الكلمات)، و(هل توجد أمريكا اللاتينية)، و(الصحافة: أفضل مهنة في العالم).
وللتعرف على عوالم صاحب (خريف البطريرك) في مهنة (أم المتاعب). ننشر ههنا مقتطفات من الخطبة التي ألقاها أمام (الجمعية الأمريكية للصحافة) عام ،1966 والتي جاء فيها:
(منذ خمسين عاماً لم تكن قد وجدتْ بعد موضة مدارس الصحافة. كنا نتعلّم في صالات التحرير، في ورش المطبعة، في المقهى المواجه للمبنى، في حفلات الجمعة. كل الجريدة كانت صناعة تُشكّل وتُخبِر بلا أخطاء، وتتولد آراء داخل مناخ من المشاركة التي تحتفظ فيها الأخلاق بمكانها. فنحن الصحفيين كنا نسير دائماً معاً، نصنع حياة مشتركة، وكنا متعصبين جداً للمهنة لدرجة أننا لم نكن نتحدث عن شيء غير المهنة نفسها. كان العمل يحمل معه صداقة المجموعة التي تترك هامشاً صغيراً للحياة الخاصة. لم تكن هناك تجمعات التحرير المؤسساتية، لكن في الخامسة مساءً، دون دعوة رسمية، كل طاقم الدور كان يأخذ راحة من ضغوط اليوم وننضم لتناول القهوة في أي مكان من الصالة. كان تسامراً مفتوحاً حيث نناقش بحماسة موضوعات كل قسم ونعطي اللمسات الأخيرة لطبعة الغد. والذين لم يتعلموا في تلك الكراسي المتجولة والملتهبة أربعاً وعشرين ساعة يومياً، أو الذين كانوا يملون من الكلام الكثير حول الشيء نفسه، هذا لأنهم كانوا يريدون أو يعتقدون أنهم صحفيون، لكنهم في الحقيقة لم يكونوا كذلك. كانت الجريدة حينئذ ثلاثة أقسام كبيرة: أخبار، وأحداث، وتحقيقات، وأعمدة افتتاحية. الحمل الثقيل كان يقع على المحرر، الذي كان يحمل في الوقت فسه مفهوم الصبي وحامل الطوب. الوقت والمهنة نفسها برهنا أن النظام المتوتر للصحافة يجول في الواقع في مغزى عكسي. أعترف: أنني في التاسعة عشرة – بعد أن كنت أسوأ دارس للحقوق – بدأت مجالي محرراً للافتتاحيات، وصعدتُ رويداً رويداً، وعملتُ كثيراً بسلالم أقسام مختلفة، حتى وصلتُ إلى أعلى مستوى للمحرر الصحفي المتمكن. الممارسة، نفسها للمهنة كانت تفرض ضرورة أن أتكوَّنَ ثقافياً، جو العمل نفسه كان يتكفل بتحميسي على ذلك. وكانت القراءة إدماناً مرتبطاً بالعمل.
عادة ما يكون العصاميون طماعين وسريعين، وناس تلك الفترة كنا كذلك وزيادة، لنستمر في فتح أبواب في الحياة لأفضل مهنة في العالم… كما كنا نسميها نحن أنفسنا. (ألبير تويراس كامارجو) الذي كان صحفياً دائماً وكان رئيس كولومبيا مرتين، لم يحصل حتى على البكالوريا. ولم يكن إنشاء مدارس الصحافة بعد ذلك إلا رد فعل مدرسياً لتدعيم فكرة أن المهنة ينقصها التعليم الأكاديمي. الآن لا يقتصر الأمر فقط على الصحافة المكتوبة، وإنما وصل إلى كل الوسائل المبتكرة والتي على وشك الابتكار. لكن في اتساعها أخذوا من الشارع حتى الاسم المتواضع للمهنة منذ أصولها في القرن الخامس عشر، والآن لا تُسمى صحافة بل علوم الإعلام أو الإعلام الاجتماعي. النتيجة، عموماً، غير مشجعة.
الأولاد الذين يتخرجون في الأكاديميات مدهوشين، يرون الحياة أمامهم، يبدون غير مرتبطين بالواقع وبمشكلاته الحياتية، ويضعون هدف البطولة فوق الميل الطبيعي والمهارات الخلقية. وخاصة فوق شرطين هامين: الإبداع والممارسة. أغلب الخريجين يصلون إلى الصحافة بعيوب فاضحة، وبمشكلات مع الهجاء والقواعد اللغوية، وبصعوبة لفهم النصوص بمرونة. بعضهم يُقدَّر لأنهم يستطيعون قراءة مستند بالمقلوب على مكتب وزير، أو تسجيل حوار مباغت دون إخبار المتحدث، أو استخدام حوار حميمي قبل ذلك كخبر. أخطر شيء أن هذه الاعتداءات الأخلاقية تخلق مفهوم الخوف من المهنة، القائمة على الضمير والمؤسسة بفخر على تقديس المهمة مهما كان الثمن وفوق كل شيء. لا يثيرهم مبدأ أن أفضل خبر ليس هو ما يُكتب أولاً، بل في كثير من الأحيان هو ما يُكتب على نحو أفضل. بعضهم، مدركين لعيوبهم، يشعرون بخيبة الأمل من المدرسة، ولا ترتجف أصواتهم وهم يلقون اللوم على مدرسيهم الذين لم يغرسوا فيهم الفضائل التي يشتكون منها الآن، وخاصة الفضول في الحياة.
الحق أن هذا النقد يفيد في التعليم العام، الذي يفسده اكتظاظ المدارس التي تتبع الخط المفرغ الذي يُعلِم ولا يُشكّل. لكن في الحالة الخاصة للصحافة يبدو أن المهنة، فضلاً عن ذلك، لم تستطع التطور بسرعة تطور أدواتها، والصحفيون تاهوا في متاهة التكنولوجيا المنطلقة بلا سيطرة نحو المستقبل. بمعنى، أن المؤسسات راهنت بقوة على المنافسة الشرسة في جانب التحديث المادي وتركت للمستقبل تشكيل فرقة المشاة وميكانيزمات المشاركة التي كانت تعزز الروح المهنية في الماضي. فصالات التحرير معامل عقيمة للبحارة الفرادى، حيث يبدو التعامل مع الظواهر الفلكية أسهل من التعامل مع قلوب القراء. عدم الأنسنة أمر مُرِيع).