عندما يتنحّى الأديب والمثقف عن قضايا المجتمع وهمومه
منذ ظهور الأبجدية الأولى، كان المثقف والأديب والسياسي في طليعة المجتمع من حيث التعاطي مع مجمل القضايا التي تخص جميع الشرائح والفئات الاجتماعية، كما كان المثقفون الطليعة التي نقلت للمجتمعات معظم أدوات التطوّر والارتقاء والانتقال من مرحلة متخلفة إلى مرحلة أكثر وعياً وتحضّراً، تشهد على ذلك عصور التنوير والنهضة العربية منذ ما قبل الاحتلال العثماني للمنطقة وأثناءه وبعده، الذي بسط سيطرة مديدة وجائرة حملت معها كل ملامح التخلف والتقهقر وسيادة ثقافة متخلّفة قائمة في جانبها الاجتماعي على الشعوذة والسحر وما شابه، وفي جانبها الثقافي والسياسي على التبعية والولاء للسلطان وأتباعه، في محاولة واعية لإبقاء شعوب تلك المنطقة في حالة التشبث الواعي أو اللاواعي بتلك السيادة التي اتخذت من الدين ستاراً وطريقاً تتمسك به معظم الفئات.
وحدهم المفكرون والأدباء وبعض الساسة من تصدوا لهذا النهج، وعملوا على محاولة تنوير المجتمع وكشف زيف ادعاءات السلطنة بحماية الدين وبسط سيطرته على الحياة، وكان من أهم أعلام هذه المرحلة عبد الرحمن الكواكبي، ناصيف اليازجي، إبراهيم البستاني، رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، ورشيد رضا الذين لاقوا ما لاقوه من صنوف الاضطهاد الاجتماعي والتكفير وما شابه، نتيجة مواقفهم الإنسانية تجاه شعوبهم.
بعد التخلّص من ذلك الاحتلال مطلع القرن الماضي، وقف الكثير من المثقفين والأدباء والساسة موقفاً إنسانياً خالصاً من مجمل القضايا الهامّة والحسّاسة التي عانى منها المجتمع بسبب احتلال ظالم ومُظلم، وعملوا على محاولة تحرير العقول والحياة من كل مظاهر التخلّف، غير أن مجيء الاحتلال الأوربي للمنطقة قد عرقل كثيراً تلك المساعي التي اتجهت في جزء غير قليل منها إلى محاربة الأطماع الاستعمارية في المنطقة وكشف مخططاتها الساعية إلى نهب خيراتها، وإبقائها في حالة من التبعية الدائمة لتلك الدول. فقد تشكّلت بعض الأحزاب السياسية الرامية إلى تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وكذلك التصدي للاحتلال الفرنسي ومن بعده للعديد من الحكومات الاستبدادية، وقد لاقى العديد من أعضاء هذه الأحزاب النفي والاعتقال والتعذيب، ولم يختلف وضع المثقفين والأدباء عن السياسيين، ورغم ذلك لم يتوقفوا يوماً عن مواصلة مسيرتهم والسعي نحو أهدافها، حتى جاءت العديد من الظروف الذاتية والموضوعية التي جعلت هذه الأحزاب أقل حماسة وصموداً من ذي قبل، ولسنا هنا بصدد تحليل تلك الظروف والأسباب التي تركت آثارها العميقة أيضاً على العديد الأدباء والمثقفين الذين آثروا اليوم الانكفاء، إمّا إلى ذواتهم المجروحة والخائفة، أو إلى النفق الطائفي الذي أبعدهم عن معظم الجماهير التي كانت ترى فيهم السند والمثل. ففي ظل كل التطورات الجارية والدامية التي لم يشهد تاريخ المنطقة لها مثيلاً، اختار العديد من أولئك الأدباء والمثقفين الصمت ملاذاً وحيداً يبعدهم عن عواقب الاعتقال والتعذيب والمساءلة، في محاولة يائسة للتهرّب من مسؤولياتهم وواجباتهم التي تفرضها عليهم المرحلة الحساسة والمصيرية، مكتفين في أحسن الأحوال بتعاطي نماذج من الأدب لا تُجدي نفعاً في الراهن المأساوي، باعتبارها بعيدة عنه سنوات ضوئية.
فالمتابع مثلاً للبرامج والخطط الموضوعة في المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة يجد أنها بعيدة جداً عمّا يعيشه المجتمع، وكأن إدارات هذه المراكز في بلد آخر لا علاقة له بما يجري هنا، فلا محاضرة تتناول المشاكل الاجتماعية الناجمة عن حرب عمرها اليوم أربع سنوات، ولا برامج يمكنها أن تقدّم خبرة وتوعية في كيفية التعاطي مع تلك المشاكل ومحاولة معالجتها تفادياً للعديد من الآثار السلبية التي قد تمتد ردحاً طويلاً من الزمن سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي، في محاولة واهمة وواهية لعدم الخوض بكل ما له علاقة بما يجري، وكأن تناول هذه الموضوعات شُبهة قد تودي بأصحابها إلى غياهب السجون، ولكنهم في حقيقة الأمر لا يريدون أن يخسروا مناصب وضعتهم فيها ربما تلك الظروف السيئة التي لم تجد خيراً منهم لها في زمن الخيبات والمآسي.
كذلك هو حال العديد من المنتديات الثقافية والاجتماعية التي تكاثرت في السنوات الأخيرة، لاسيما في ظل الحرب الدائرة. إذ إن العديد من أعضائها يحاول دائماً النأي بنفسه عن مناقشة العديد من القضايا والأمراض والمشاكل الاجتماعية المتفاقمة في ظل ما يجري، مستنداً إلى أن صبغة هذا المنتدى هي صبغة أدبية- ثقافية لا سياسية. صحيحٌ تماماً أن جميع مشاكلنا، لاسيما اليوم، اجتماعية كانت أم ثقافية أم اقتصادية هي ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بالسياسة التي تتحكّم بما يجري في سورية، غير أن الانعكاسات والارتدادات لها على المستوى الاجتماعي لا يمكن تجاهلها، مهما كان موقفنا السياسي من أطراف النزاع على الأرض، لأن تلك المشاكل لا تُفرّق بين مؤيّد أو معارض، فهي تطول الجميع بتداعياتها المأساوية التي ستترك آثارها المُدمّرة على الأجيال اللاحقة مستقبلاً، خاصة إن أُهملت وإن كل التعاطي معها لا يتسم بالجديّة أو روح المسؤولية.
من هنا، لا يُقْبَل للأديب أو المثقف أن يبتعد عن تناول تلك المشاكل وتداعياتها، وربما يجب أن يحاول محاولة جادّة وحقيقية للتصدي منذ اليوم لكل ما ترتّب وما سيترتّب لاحقاً من أمراض اجتماعية ونفسية تُعيق وتُعرقل الحياة المستقبلية، التي ستحتاج من الجميع ولا شك إلى جهد وزمن غير قليلين في بلد ما زال منذ سنوات أربع يُعاني الحرب بكل مآسيها وخرابها ودمارها. فالأدب على مرّ التاريخ كان أحد أهم الحوامل والعوامل في التغيير الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، برصده الواقع وأمراضه وسلبياته، ومحاولة التصدي لها بالرواية والشعر والمسرح، وهذا ما هو معلوم لدى الجميع. فكيف لأدبائنا ومثقفينا اليوم، خاصة في ظروفنا القاهرة والحساسة والمصيرية أن يتنحّوا عن مهامهم ومسؤولياتهم تجاه المجتمع والأدب ذاته..؟ ثمّ، من قال إن الأديب أو المثقف لا علاقة له بما يجري في المجتمع سواء في السلم أو الحرب..؟ أليس هذا خروجاً سافراً عن المهمة التاريخية والإنسانية للأديب والمثقف والباحث..؟