الشعرية بين المحكية والفصحى

1

يقيم المركز الثقافي في جرمانا، بالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب، فرع ريف دمشق، أمسية أدبية ثقافية، فكرية، فنية، بالتناوب يوم الأحد الأول والثالث من كل شهر.

وقد كان ضيف الأحد ما قبل الماضي الشاعر المعروف فؤاد حيدر، رئيس جمعية الزجل، الذي قام بتقديمه للحضور رئيس فرع ريف دمشق لاتحاد الكتاب الدكتور نزار بريك هنيدي، متحدثاً عن قيمة الشعر المحكي وعن تجربة الضيف في الزجل والشعر، داعياً إلى الاهتمام بهذا اللون من الكتابة الذي يمثل وجدان أعداد كبيرة من المواطنين، ولا يقلل من أهميته أنه لا يستخدم اللغة الفصحى (الرسمية) أداة للتعبير، فهو شعر حقيقي بكل مقاييس الشعر.

بدأ الشاعر فؤاد حيدر أمسيته بالحديث عن العلاقة بين اللغة المحكية والفصحى في مجال الشعر، مؤكداً أننا جميعاً نفكر ونحلم، ونتحدث بالمحكية، حتى المثقفون يتحاورون ويتكلمون مع أبنائهم وزوجاتهم بها، فلماذا عندما نكتب بها شعراً نواجه بالتجاهل والإهمال؟! وأضاف مستهجناً أليس ما نكتبه شعراً. وأنتم أيها الحضور الكريم، أهلٌ للحكم على ذلك، ففيكم الناقد والجامعي والأكاديمي، المتخصص، والمتذوق المحترف، وروى حادثة جرت معه عندما كان التلفاز الوطني يقدم لهم حفلات زجل، ويرفض المشرفون عليه تسمية ما يقولونه شعراً، إلى أن حصل لقاء مع الشاعر الكبير عمر أبي ريشة، على الشاشة نفسها، إذ قال: لقد أدهشني شاعر سمعته على شاشتكم، وكان الشاعر هو فؤاد حيدر، بعد هذا الحكم النقدي، تغيرت التسمية وأصبحت شعراً مكان الزجل.

بعد الاستماع إلى قصائد الشاعر فؤاد حيدر المحكية، التي اختلط فيها الوطني بالوجداني، بالغزلي، وتداخلت فيها الأجناس (تسريد الشعر) جرى نقاش حول ما هو الشعر، وما هي أهم خصائصه ومحدداته؟ وهل يشترط أن يكتب بالفصحى؟ بمعنى آخر: هل المكتوب بالمحكية شعر؟!

ذهبت الآراء إلى أن ما استمعوا إليه هو شعر (قصيدة) مستكملة المقومات المعروفة لها من خيال وتجربة وبنية وفكرة ورؤية، إضافة إلى الوزن والقافية، وهذا يتطابق تماماً مع التجربة الشعرية عند العرب، مع فارق اللغة (المحكية  الفصحى). فهل يحتاج مثل هذا الشعر إلى اعتراف بمشروعيته، أم أن شرعيته تأتي من جودته وحضوره وأعداد متلقيه؟

لقد ميز الحضور بوعي ودقة بين الزجل كنوع أدبي، وبين الشعر المحكي، والشعر النبطي، وغيرها، ووصلوا إلى استنتاج أن هذه التجارب تسترعي الانتباه وتستحق العناية، حتى إن بعضهم ذهب إلى ضرورة تخصيص كرسي في قسم اللغة العربية لدراستها، أسوة ببعض الجامعات العربية (الأدب الشعبي).

عدم الاعتراف الرسمي بتجربة الشعر المحكي لا يقلل من أهميتها، فهي بالنتيجة تعبير حقيقي وطبيعي صادق عن مشاعر وأحاسيس وتجارب أعداد كبيرة من الناس، الذين قد لا يتقنون الفصحى، مع أن بعضهم يلم بها إلماماً واسعاً، لكنه اختار المحكية أداة له، لأنه وجد فيها طاقة تعبيرية تحل إشكال الانفصام وتردم الهوة بين ما نفكر به وما نقوله، بين لغة اليومي المعيش ولغة الكتب، فاللغة الحية المتداولة أكثر حميمية وقرباً من القلوب والأسماع.

2

ليس من المنطق أن نقايس (نقارن) تجربة أدبية وشكلاً فنياً بمعايير تجربة وأشكال أخرى، فعند الحكم على الشعر المحكي، علينا أن نتحرر ولو نظرياً من هيمنة القارّ في الذاكرة من تجربة الشعر العربي الفصيح، ولكن أليس الشعر شعراً بأية لغة كتب، فللشعر لغته وقواعده وضوابطه ومقاييسه. وهنا نجد تواشجاً وتقاطعاً شبه تام بين التجربتين، الشعر المكتوب بالفصحى، والشعر المكتوب بالمحكية، حتى وإن اختلفت المفردات (الدوالُّ) لأن لغة الشعر واحدة مهما اختلفت الأدوات، فلماذا لا نجيز تعدد التجارب، وتعايش الأشكال، وتنوع الطرق؟ أما الخوف على اللغة الفصحى (العروة الوثقى) من (المحكية) فهو خوف مبالغ فيه، لأن المحكية لا تقوى بحكم تكوينها وقدراتها على مواجهة الفصحى بكل زخمها التاريخي والمعرفي، ولعدة اعتبارات أخرى، لا مجال لتعدادها في هذه المقاربة، فهل يعقل أن يخشى أبو تمام مثلاً على لغته وشعريته من شاعر له كامل الحق في التعبير عن نفسه؟ كما ملك ذلك الحق أبو تمام في زمانه وموقعه الثقافي والمعرفي. وهل ثمة مخاوف على الفصحى التي اختبرها الزمن، وتعرضت لتحديات كبيرة، ومواجهات تاريخية، وخرجت منها منتصرة مظفرة في كل معاركها؟ الخوف على الفصحى (الشعر المكتوب بها) ليس من المحكية وما يكتب بها من شعر، مهما اتسعت وانتشرت، الخوف عليها من الجهل، والتخلف الحضاري، والاهتمام بها يكون برفع المنسوب المعرفي والثقافي للناطقين بها، وتملكهم روح العصر، بما فيها من عقلانية وثورة في المعلومات والمعارف، إنتاجاً واستهلاكاً.

العدد 1140 - 22/01/2025