مثقفو الناتو… المحافظون العرب الجدد! (1/2)
‘«المثقفون أقرب الناس إلى الخيانة، لأنهم الأقدر على تبريرها».
لينين
«1»
قبل نحو قرن من الزمان أصدر الفيلسوف الفرنسي (جوليان بندا) كتاباً هاماً حمل عنوان (خيانة المثقفين) أدان فيه موقف المثقفين الأوربيين المتخاذل تجاه العواصف الكثيرة التي كانت نذرها تقترب من أوربا.
وإذا كانت ظاهرة خيانة المثقف ليست جديدة، وهي موجودة منذ القدم، ويشهد تاريخنا العربي- الإسلامي على وجودها بكثافة، فإنها تعاظمت في القرن العشرين مع بروز دور المثقفين. حتى بلغت ذروتها في وصول مجموعة من الفلاسفة والمفكرين إلى دوائر صنع القرار في واشنطن، ليرافقوا صعود المرحلة البوشية بحروبها الحمقاء وتخبطها الأهوج وسقوطها الموحل! تاركة وراءها ركاماً من الجثث يصعب حصره وتعداده، وبلداناً كثيرة مدمرة. وعرفت هذه المجموعة باسم (المحافظين الجدد)، وضمت أسماء بارزة مثل (ريتشارد بيرل-بول وولفوفيتز- دوغلاس فيث- مارتن إنديك…) ومعظمهم- للمفارقة- جاء من خلفية يسارية متطرفة، وكان من أبرز الوجوه التروتسكية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي! ولكن التحولات العاصفة التي عاشها العالم لاحقاً جعلتهم ينتقلون إلى الجبهة المضادة تماماً، إلى التنظير لسبل تحقيق الهيمنة الأمريكية على العالم المعاصر، والانتقال من الحرب الباردة ضد المعسكر الاشتراكي بعد الانتصار عليه، إلى الحرب الساخنة على العالم الإسلامي برمته، باعتباره أخطر خصوم الولايات المتحدة راهناً، وصولاً إلى تذريره وإعادته إلى لحظة (العماء) الأولى، إلى بناه الأولى القبلية والعشائرية والطائفية والعرقية..، وإدخاله في حروب لا تنتهي لمئة عام! مع ضمان استنزاف موارده الهائلة، في الفترة نفسها!
وبالفعل، نجح هؤلاء الأبالسة في الارتقاء والوصول إلى البيت الأبيض ذاته، ونجحوا في تشكيل نوع من المافيا التي تطبخ القرار السياسي الأمريكي أولاً، ومن ثم تحشوه في دماغ جورج بوش الفارغ والناصع البياض! تماماً كدماغ الطفل الحديث الولادة! وكانت النتيجة أن عاش العالم، والعرب في المقدمة، عقداً مروعاً لا يمكن مقارنته- من حيث عدد الحروب وأرقام الضحايا وغياب لغة العقل- إلا بعقدَيْ الحربين العالميتين في القرن العشرين!
ومؤخراً قدمت لنا فرنسا نموذجاً جديداً لهذا النوع من المثقفين، محافظاً جديداً بنكهة فرنسية، أي بروح استعراضية. والفرنسيون عموماً،ونخبهم الثقافية والسياسية والفنية والفكرية في المقدمة، لا يمكنهم الحياة دون استعراض، ويخيل إليَّ أنك لو منعت فرنسياً من الاستعراض فإنك تحكم عليه بالموت لا أكثر ولا أقل!
والمحافظ الجديد الذي فقَّسته فرنسا هو (برنارد هنري ليفي)، ويُطرح اسمه عادة مسبوقاً بلقب (الفيلسوف الفرنسي)! والحقيقة أن هذا الرجل بدأ رحلته الفكرية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لاعن طريق إنتاج الأفكار وتوليدها، فذلك ما يستلزم تفرغاً وجهداً و.. وابتعاداً عن الاستعراض! بل عن طريقٍ أقصر بكثير، يحرق فيها المراحل كلها، وهو المرافقة الدائمة والحثيثة لنجم الثقافة الفرنسية الأشهر آنذاك: جان بول سارتر! ويبدو أن رهان الشاب الاستعراضي كان بسيطاً للغاية: فكل تلك الأضواء المسلطة على أستاذه، ستصيبه منها في النهاية رشرشة (طرطوشة) ما! وبالفعل بات الشاب الطموح معروفاً إلى حد ما في الوسط الثقافي الفرنسي.
وبرز دور ليفي ابتداء من عام 1976 مع ظهور ما عرف بحركة (الفلسفة الجديدة). وراح صاحبنا يهاجم الاشتراكية بلا هوادة، عادّاً إياها (فاسدة أخلاقياً)! وألف بهذا الصدد كتابه (البربرية بوجه إنساني)! وبعد أكثر من ثلاثين عاماً، كان الرجل لا يزال يواصل حملته على اليسار بلا توقف، ففي عام 2008 نشر كتابه ( يسار في أزمنة مظلمة: موقف ضد البربرية الجديدة)، الذي يقرر فيه أن اليسار فقد قيمه تماماً، واستعاض عنها بالكراهية العمياء للولايات المتحدة وإسرائيل واليهود! وأن التطرف الإسلامي لم يأت ردَّ فعل طبيعياً على ممارسات الغرب، بل هو متأصل في الروح الإسلامية!وأن التهديد الإسلامي للغرب يتطابق مع التهديد الفاشي له في الماضي! كما يؤكد صاحبنا أن تدخل الغرب في العالم الثالث (بدواعٍ إنسانية) هو أمر مشروع تماماً، وليس (مؤامرة إمبريالية) قط!
وهذا الكاتب الذي ينتمي إلى عائلة يهودية فرنسية من السفارديم، والذي ولد في الجزائر عام 1948 قبل أن تنتقل عائلته الثرية إلى فرنسا، سنجد آثاره في جميع الكوارث التي لحقت بالعالم الإسلامي على امتداد العقود الغابرة. ففي حرب انفصال بنغلادش عن باكستان (1971) كان مراسلاً حربياً هناك! وخلال حرب البوسنة (1990) كان يتصدر دعوة الناتو للتدخل فيها! وفي عام 2006 أصدر بياناً يدافع فيه عن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد في الصحافة الدانمركية، وفي عام 2009 هاجم الانتخابات الإيرانية ودعا للاحتجاج ضد الرئيس الإيراني أحمدي نجاد!
وبالمقابل قضى هذا الرجل عمره كله في دفاع حار عن إسرائيل، وآخر مواقفه بهذا الصدد كان في أيار 2010 في تل أبيب خلال مؤتمر (الديمقراطية وتحدياتها)، إذ دافع بشراسة عن الجيش الإسرائيلي معتبراً إياه (أكثر جيش ديمقراطي في العالم)! وقال بهذا الصدد: (لم أر في حياتي جيشاً ديمقراطياً كهذا يطرح على نفسه هذا الكم من الأسئلة الأخلاقية. فثمة شيء حيوي بشكل غير اعتيادي في الديمقراطية الإسرائيلية)!
وعلى صعيد آخر، بات مرافق سارتر سابقاً، مرافقاً لساركوزي لاحقاً. وأكثر من ذلك، فقد بات أحد صانعي القرار الفرنسي الخارجي، لدرجة أثارت ضغينة وزير الخارجية السابق آلان جوبيه وأشعلت حرباً داخلية بينهما!
وفي هذا الحراك العربي المتواصل (بثماره السوداء) برز دور هنري ليفي بشكل غير مسبوق، إلى حد دفع الكاتبة التونسية (يمينة حمدي) للتساؤل: هل إن برنار ليفي هو من كتب النص الخاص بالثورات العربية؟
فعلى الصعيد العربي كان ليفي حاضراً في تمرد جنوب السودان الذي انتهى بالانفصال المعروف. وثمة صورة له في وسط ميدان التحرير في القاهرة مع المنتفضين، ثم صورة أخرى في بنغازي على ظهر دبابة ليبية، محاطاً بمجموعة مقاتلين، ثم صورة له في سينما باريسية وهو ينظم مؤتمراً ل(المعارضة السورية)! بحضور إسرائيلي!
ثم صورة تفسّر كل ما سبق، وتجمعه مع بنيامين نتنياهو في جلسة حميمة تبدو لكل من يشاهدها، وكأن الطرفين أصبحا قائدَيْن ثوريين فعليين لهذا (الربيع العربي)! وهما يخططان في تلك اللحظة بالضبط، للخطوة القادمة!
أرأيتم إلى الكيفية التي تتحول بها المعرفة إلى سلطة؟ والكيفية التي تتبادل فيها المعرفة والسلطة المواقع؟ وكذلك الكيفية التي تقود فيها المرء خياراته في الحياة :من الوجودية إلى الصهيونية السياسية؟!
ها إن برنار هنري ليفي بات نجماً لامعاً يجالس الكبار في هذا العالم، ويخطط لهم، ويهمس في آذانهم بأفكاره العبقرية، لتترجم في اليوم التالي إلى قرارات سياسية. بل وأكثر من ذلك يبدو هذا الكائن اليوم قائداً فعلياً لتغييرات تاريخية ستعيد تشكيل القارة العربية بأسرها ! إنما لصالح إسرائيل والغرب الأوربي حصراً!
(2)
فإذا انتقلنا بأبصارنا إلى جبهة الثقافة العربية، فماذا سنجد؟
عرفت ثقافتنا الكثير من المثقفين الكبار الذين اتخذوا موقفاً معارضاً لبطش السلطة، أو أنتجوا حقائق معرفية لم تعجب تلك السلطة، أو اتخذوا لأنفسهم مسافة ما عنها، تتيح لهم العمل بهدوء وإنتاج المعرفة بعيداً عن بهرجة السلطة وزيفها. وعموماً فإن هؤلاء شكّلوا بمجموعهم، شرف الثقافة العربية وكرامتها الحقيقية، وكثيرون منهم ماتوا فقراء معدمين، أو تم البطش بهم وقتلهم بالسيف، أو حتى حرقهم هم وكتبهم معاً!
ولكن بالمقابل، كانت ثقافتنا من أعرق الثقافات وأقدمها في إنتاج نموذج المثقف التابع للسلطة، والمتعلق بأذيالها، والباحث عن رغد العيش تحت ظلالها، وعن الأمان في فيئها! وهل أدل على ذلك من حضور مصطلحَيْ (كاتب السلطان) و(شاعر البلاط) في ثقافتنا منذ القدم؟!
وفي العصر الحديث برزت كثيراً ظاهرة المثقف اللاهث للحاق بقطار السلطة، وكيلا نطيل فإننا سنقصر حديثنا على المرحلة الحالية التي بدأت في تسعينيات القرن الماضي، وتحولت اليوم إلى ظاهرة ضخمة من حيث العدد، وهائلة من حيث التأثير، وخطيرة من حيث الممارسة والسلوك! ولفهمها جيداً علينا التوجه بأبصارنا جنوباً، إلى حيث تلك المملكة الصحراوية الساكنة والشاسعة الأطراف، والحاوية على أضخم مخزون نفطي في العالم! والتي ما زالت حتى يومنا هذا تعيش قرونها الوسطى بهدوء تام، وتغفو بصمت تاريخي لا تريد لأحد أن يعكره، وتزمجر مكشرة عن أنيابها تجاه كل من يحاول تحريك الهواء الراكد!وهذه المملكة عملت دائماً على توظيف ثرواتها الهائلة في سبيل تأمين إعادة الصمت والسكون التامَّيْن في محيطها العربي، ومحاربة كل ذلك الضجيج الثوري الذي أشعل المنطقة بأسرها، ابتداء من خمسينيات القرن العشرين.
وقد حققت نجاحات كبرى- لنعترف بذلك- وخاصة في حربها على مراكز التنوير في المنطقة (القاهرة أولاً، فدمشق، ثم بغداد، فبيروت) ولكن فرصتها الذهبية جاءت في التسعينيات، مع انهيار المشاريع اليسارية والقومية. فاستفردت السعودية بالمنطقة فعلاً، بخطابها الإسلامي الوهابي المغلق، وإنتاجها المستمر للتكفيريين الظلاميين. وبدأت تنشر نفوذها عن طريق شراء العقول أولاً (ولعل بعضنا لا يزال يتذكر تصريح الملك السعودي السابق فهد، من أنه لن يترك صاحب قلم في البلاد العربية إلا ويشتريه!) فقد تأسست منابر إعلامية وصحف تضخ مفاهيم (الاعتدال) في مقابل الخطاب الذي تنتجه المراكز التنويرية نفسها، والذي يتهم بالتطرف!
وبرز في هذا الصدد الدور الهام الذي لعبته صحيفتان سعوديتان هما (الحياة) و(الشرق الأوسط) بإمكانات مالية هائلة، لا يمكن لمراكز التنوير منافستها. وتدفق (البترودولار) دون حساب، إلى جيوب فارغة فأدفأها أخيراً، وكان أن انتقل – بالتدريج- عدد كبير من المثقفين اليساريين والقوميين، التنويريين والعلمانيين، إلى خانة أخرى مضادة على طول الخط، وعملوا على إنتاج ثقافة ومعرفة باهتة،محافظة، بلا لون ولا طعم ولا رائحة! وهي معادية لخط التقدم التاريخي بامتياز.