استذكار غسان كنفاني.. أول شهداء «الكلمة المقاتلة» في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة
قضى غسان كنفاني حياته القصيرة (36 عاماً)، مناضلاً، وصحفياً، وكاتباً، وسياسياً، وروائياً، وقاصاً، وكاتباً مسرحياً، وناقداً أدبياً، وباحثاً، ودارساً، وفناناً تشكيلياً، على درجة عالية من الوعي بوسائله الفنية.
ويعدّ غسان أول شهداء الكلمة الفلسطينية المقاتلة، في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة. عاش مقاتلاً بعيداً عن أرضه، من أجل أرضه المستباحة، يقاتل بكل دمائه النبيلة. وكان يعرف أن التراجع موت، وأن الفرار قدر الكاذبين، وقد تميز بتفكيره الثوري ونضاله في سبيل وطنه المغتصب، وتجسيد مأساة شعبه بأعمال إبداعية متنوعة، صور فيها محنته وتشرده وصموده. وهو مناضل ومفكر وإعلامي وفنان.
وهو كما تقول الأديبة الكبيرة غادة السمان (فارس إسبارطي حياته ملتصقة على ذؤابة رمحه، يعتقد أن الحياة أكبر من أن تعطيه، وأنه أكبر من أن يستجدي، وكان دوماً يريد أن يعطي بشرف مقاتل الصف الأول).
ومثلما كانت حياة غسان شاهدة على وحشية وهمجية الاحتلال الصهيوني الإحلالي، كان استشهاده الشاهد الحي على أن (الكلمة الرصاصة.. الكلمة المقاتلة) أمضى على الأعداء من السلاح.
الميلاد والنشأة..
في التاسع من نيسان/ أبريل عام 1936 ولد غسان، وهو – كما يذكر شقيقه الأديب عدنان كنفاني _ الطفل الوحيد بين أشقائه الذي ولد في مدينة عكا، فقد كان من عادة أسرته قضاء فترات الإجازة والأعياد في عكا. وقد كان من نصيبه الالتحاق بمدرسة (الفرير) بيافا. ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات. فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا وهو الحي الملاصق لتل أبيب وقد شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التي بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين. لذلك فقد حمل الوالد زوجته وأبناءه وأتى بهم إلى عكا وعاد هو إلى يافا. أقامت العائلة هناك من نهاية عام 47 إلى أن كانت إحدى ليالي أواخر نيسان/ أبريل 1948 حين جرى الهجوم الأول على مدينة عكا. بقي المهاجرون خارج عكا على تل الفخار (تل نابليون) وخرج المناضلون يدافعون عن مدينتهم ووقف رجال الأسرة أمام بيت الجد الواقع في أطراف البلد، وكل يحمل ما تيسر له من سلاح وذلك للدفاع عن النساء والأطفال إذا اقتضى الأمر.
في هذا الجو كان غسان يجلس هادئاً كعادته ليستمع ويراقب ما يجري.
ومع استمرار الاشتباكات منذ المساء حتى الفجر وفي الصباح كانت معظم الأسر تغادر المدينة، وكانت أسرة غسان ممن تيسر لهم المغادرة مع عديد من الأسر في سيارة شحن إلى لبنان، فوصلوا إلى صيدا ومنها انتقلوا بالقطار مع آخرين إلى حلب ثم إلى الزبداني ثم إلى دمشق، حيث استقر بهم المقام في منزل قديم من منازل دمشق، وبدأت هناك مرحلة أخرى قاسية من مراحل حياة الأسرة.
كان غسان في طفولته يلفت النظر بهدوئه بين جميع إخوته وأقرانه، غير أنه كان يشترك في مشاكلهم التي كان مهيأ لها دون أن يبدو عليه ذلك.
وفي دمشق شارك غسان حياة أسرته الصعبة، فقد عمل أبوه المحامي بعد أن اضطرته الظروف وهو المحامي المرموق في بلده، أعمالاً بدائية بسيطة. وعملت أخته بالتدريس، أما هو وأخوه فقد عملا في صناعة أكياس الورق، ثم عمالاً، ثم قاما بكتابة الاستدعاءات أمام أبواب المحاكم، في نفس الوقت الذي كان يتابع فيه دروسه الابتدائية. ثم تحسنت أحوال الأسرة، وافتتح أبوه مكتباً لممارسة المحاماة، فأخذ هو إلى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف، وأحياناً يمارس التحرير، واشترك في برنامج فلسطين في الإذاعة السورية وبرنامج الطلبة، وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية.
وكانت تشجعه على ذلك وتأخذ بيده شقيقته التي كان لها في هذه الفترة تأثير كبير علي حياته. وأثناء دراسته المرحلة الثانوية برز تفوقه في الأدب العربي والرسم. وعندما أنهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين، وبالذات في مدرسة (الإليانس) بدمشق. والتحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي، وأسند إليه آنذاك تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي. وكان معظم ما عرض فيه من جهد غسان الشخصي. وذلك إضافة إلى معارض الرسم الأخرى التي أشرف عليها.
وفي هذا الوقت كان قد انخرط في (حركة القوميين العرب).
وفي أواخر عام 1955 التحق بالتدريس في مدارس المعارف الكويتية، وكانت شقيقته وشقيقه قد سبقاه إلى ذلك بسنوات. وفترة إقامته في الكويت كانت المرحلة التي رافقت إقباله الشديد والذي يبدو غير معقول على القراءة، وهى التي شحنت حياته الفكرية بدفقة كبيرة. فكان يقرأ بنهم شديد. كان يقول إنه لا يذكر يوماً نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل، أو ما لا يقل عن ستمئة صفحة. وهناك بدأ يحرر في إحدى صحف الكويت ويكتب تعليقا سياسياً بتوقيع (أبو العز). وفي الكويت كتب أيضاً أولى قصصه القصيرة (القميص المسروق) التي نال عليها الجائزة الأولى في مسابقة أدبية. وفي عام 1960 حضر غسان إلى بيروت للعمل في مجلة (الحرية) كما هو معروف.
في بيروت كان الشاهد والشهيد
كانت بيروت المجال الأرحب لعمل غسان، وفرصته للقاء بالتيارات الأدبية والفكرية والسياسية. وقد بدأ عمله فيها في مجلة (الحرية)، ثم أخذ إضافة إلى ذلك يكتب مقالة أسبوعية لجريدة (المحرر) البيروتية، التي كانت لا تزال تصدر أسبوعية صباح كل يوم اثنين. وقد لفت نشاطه ومقالاته الأنظار إليه كصحفي وكاتب ومفكر وناشط سياسي وثوري.
ومنذ توليه رئاسة تحرير مجلة (الهدف) البيروتية، تحولت المجلة إلى منبر للإعلام الثوري ينادي بالوحدة الوطنية والعمل الثوري والفدائي الفلسطيني.
وفي صباح الثامن من شهر تمّوز / يوليو 1972 استشهد غسان على أيدي جهاز المخابرات الصهيونية (الموساد)، عندما انفجرت قنبلة بلاستيكية ومعها خمسة كيلوغرامات من الديناميت في سيارته، أودت بحياته وحياة ابنة شقيقته (لميس) التي كانت برفقته. ورغم رحيله المبكر إلا أن عطاءات غسان كنفاني الفكرية والثقافية والفنية والإعلامية تعدّدت. فقد كتب القصة القصيرة، والرواية، والمقالة الصحفية، والدراسات التحليلية والمسرحية، كما رسم عديداً من اللوحات التشكيلية، وفي تنوع نشاطاته كانت فلسطين محور عمله. ومن أشهر أعماله الروائية (رجال في الشمس)، و(ما تبقى لكم)، و(عائد إلى حيفا). وله دراستان هاماتان عن الأدب الفلسطيني المقاوم هما: (أدب المقاومة في فلسطين المحتلة (48- 1966))، و(الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال). وقد منح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون، من منظمة التحرير الفلسطينية في كانون الثاني/ يناير 1990.