حزن الشعر
يؤخذ على الشعر العربي جنوحه إلى الحزن والألم واليأس، وابتعاده عن كل ما يبعث البهجة والفرح. وكثيراً ما نسمع أحدهم يقول إثر قراءة شاعر ما: إنه شاعر رائع، لكنه يبالغ في القنوط واليأس والنظرة السوداوية إلى العالم والحياة. والحقيقة أن مثل هذه النظرة لا تنحصر في فئة معينة أو أفراد معدودين، بل تتسع دائرتها لتشمل قطاعات وشرائح اجتماعية كثيرة تشترك في عزوفها عن الشعر وجفائها له. ولا أنكر في هذا السياق ميل الكثير من الشعراء إلى الإفراط في القتامة والتفجع ورثاء النفس. ولكنني أعتقد أن الأمر أعقد من ذلك، لأنه يتصل بطبيعة الشعر ووظيفته ودوره بقدر ما تتصل بطبيعة العلاقة بين الواقع والتعبير الأدبي .
ثمة من يرد الجنوح المأسوي للشعر العربي إلى الأسباب السياسية والاجتماعية التي لا تترك للشعراء فرصة للفرح أو التفاؤل، إضافة إلى واقع الهزيمة المتجددة ووطأة القمع وغياب الحرية، وهي أمور لا يمكن إنكارها، لكن علينا أن نشير إلى أن الحزن ليس خاصية محض عربية رغم قول محمود درويش (وأول دمعة في الأرض كانت دمعة عربية)، بل هو نزوع إنساني طبيعي مرتبط على الأغلب بعاملين اثنين: أحدهما اجتماعي مرتبط بالفقر والظلم والمرض وفقدان العدالة أو الحرية، والآخر وجودي منبعث من أماكن أعمق وأكثر اتصالاً بجذر المأساة .إنها الأماكن المفتوحة على القلق المصيري والشعوري الفاجع بالزوال .فالإنسان كائن مهدد دائماً بالشيخوخة والموت والفناء. ولأن الإنسان كائن هش ومهدد بالتلاشي، فإن تعبيره عن هذه الهشاشة لا بد أن يكون في قراراته ومشرعا على الشجن والحسرة.
ليس من قبيل المصادفة إذاً أن تكون السعادة مجرد طيف عابر أو لحظات سريعة الانطفاء، لحظات لا نكاد نقبض على ناصيتها حتى تتلاشى من بين أصابعنا إلى غير رجعة. لهذا السبب على الأرجح يستعيذ الناس العاديون والبسطاء من شر إغراقهم بالضحك. ولهذا السبب يذهب بعض المتعصبين دينياً إلى اعتبار الضحك المبالغ فيه مكروهاً وغير مستحب، كأن هؤلاء وأولئك يرون أنه لا يحق للإنسان أن يضحك ما دام (أديم الأرض ليس إلا من هذه الأجساد ) على حد تعبير المعري. وما دام الموت هو وحده من يضع النقطة على السطر. ومن الطبيعي والحال هذه أن يكون للشعر مذاق الحسرة ونبرة الإحساس بالفقد ما دام هو التعبير الأمثل عن القاع الإنساني وعن لغة السريرة وعذابات الداخل وأسئلته القاسية .
وبرغم ذلك لا يمكن اعتبار جنوح الشعراء إلى الحزن والانكسار والخيبة نقيصة أو دعوة مفتوحة إلى اليأس. وكل من يصف الشعراء باليائسين والناعقين فوق خرائب العالم إنما يرى الأمور بعين قاصرة، أو بعجز حقيقي عن تلمس الحقيقة الشعرية. فما يحدد حيوية القصيدة ليس الموضوع بقدر ما هو التعبير نفسه .
إن التعبير هو وحده القادر على تحويل ظلام المعنى إلى نور لا يضاهى وفرح لا يحد، فحين نقرأ رثاء ابن الرومي لابنه الأوسط، أو رثاء غارسيا لوركا لصديقه مصارع الثيران، أو قصيدة السياب (غريب الخليج)، ينتابنا بلا شك شعور بالحزن والتعاطف. لكن الأهم ما ينتابنا على نحو أعمق هو الفرح المتولد من فرح الإبداع، أو ما يسميه رولان بارت لذة النص، فهذه اللذة المعرفية هي بحسب الأبيقوريين قمة اللذائذ وأكثرها نفاذاً إلى الأعماق .
لا يهم على الإطلاق أن يكون الألم أو الموت أو الفراق موضوعاً للقصيدة، بل المهم أن يقف وراء القصيدة شاعر حقيقي وموهبة فذة، تستطيع أن تشعرنا بقوة الخلق ودهشة الابتكار الفني. في حال كهذه يتلاشى موضوع القصيدة أمام عظمة بنائها وفرادة تعابيرها، ويصبح الشعور بالمتعة هو الطاغي على كل شعور آخر. ثم كيف للشعر العظيم أن يبعث على الإحباط واليأس بصرف النظر عن موضوعه، ما دامت الحياة في أقصى درجاتها سطوعاً هي التي تنجبه، وهي التي تصنعه من المادة نفسها التي يتشكل منها كل ما هو أبدي وخالد؟