«بعثة السماء»: جسارة الصوت في زمن الصمت..
(كي لا يخلع المسرح رداءه الأزلي، بكونه متفرجاً عليه ويلبس رداء المتفرج على ما يدور على مسرح الوطن، وكي لا يُوضع الفنانون السوريون في قفة واحدة حيال محنة الوطن.. ولأنني فنان درامي سوري، آثرت ومجموعتي تجمّع مسرح الناس أن ننزل إلى خندقنا، المسرح.. لنقاوم!).
تحيلنا هذه الكلمات المقتبسة من مقدمة الفنان المسرحي والشاعر مشهور خيزران إلى كثافة بيان مسرحي، سوف يذهب أبعد من توصيف حقيقة الدور الذي يلعبه المسرح الآن، بل وضعه في صيغة عملية، لينكشف في نص منجز، يستحق وصفه برؤيا لما يجري في وطننا، وبشكل خاص في سورية، من وقائع ومتغيرات، سعى النص لاستشرافها، بعنوان لافت هو (بعثة السماء).
إذن كان ل (تجمع مسرح الناس) أن يعلن التفاته إلى السياق ليغيّر موضع المتفرج، ومن مسرح الوطن بالذات سوف تستحضر المفردات والخطاب لتنسج رؤيا بما حدث، عبر المشهديات المتواترة، المتصلة المنفصلة، والتي تعني في سياقها ودلالتها، الانتقالات الواعية بين الحقائق المجزوءة والمكتملة بآن، يصنع المسرحي مشهور خيزران، كاتباً وممثلاً ومخرجاً، مشاهده بهاجس أول ونهائي هو الحقيقة، في وجهيها الجمالي والقبيح، وفي المشهد التأسيسي الذي يفتتح بعد إشارات دالة، تهبط بعثة السماء وإلى الأرض وتبدأ برصد ما يجري من أحداث، ليست تلك صورة ميثولوجية، أي الذهاب لبدء التكوين فحسب، بل تأسيس لذلك السياق المعرفي وإضاءة له.
يقول المبعوث السماوي: عشرة آلاف سنة، يا لطرافة هذا البلد! ثم استحضار أول من اخترع الأبجدية في العالم، هكذا تبدأ رحلة بعثة زحل، ويدور حوار شاق بين رئيس البعثة السماوية وزوجته، قبل أن يرصدا الواقع محايدَيْن، ليرفعا تقريرهما لجمعية الأمم السماوية أو لمجلس السماء، كشاهدَيْن على ما يحصل على أرضنا من وقائع وآلام ومفارقات، ينتبه النص المسرحي إلى أبعادها الإنسانية الدرامية، ولتمثيلاتها (الشعبية) الأكثر خصوصية، للوصول إلى الحقيقة المتصلة بالأزمة وتفصيلاتها الواضحة الخطوط والمسارات. هل جاءت (البعثة) للتحقيق في جرائم التفجير الإرهابية، أم لتصفية الخلافات؟!
غير أن العرض في مشاهده المركبة، والتي ضبط الحوار الدرامي على ألسنة الممثلين، فضاءه، أي فتح ميزانسينه تشكيله الحركي على مقولات استنطقت الواقع والمسكوت عنه فيه، سيما في دلالات الحوار بين شخصيتي (المرج والجوري)، اللتين أبدع في تشخصيهما الفنانان الشابان ياسر قماش ورفعت بوعساف. واللافت في أداء الفنان ياسر قماش الذي أبدع في شخصيات ثلاث (الجوري التاجر كراكوز) امتلاكه قابلية التنويع على الأنموذج المعطى، ليعكس وعياً بأدوات المسرحي وفهمه لما يعنيه شرط الفن أولاً، وما يضايفه من موهبة كبيرة، تسفر عن إمكان مسرحي لافت، إلى جانب ما تبشر به موهبة دانا عرار (الصبا) من قدرة على تفعيل النص ومنحه زخماً درامياً ذا قيمة مضافة.
إن استحضار التراث والفلكور بمشهد (كراكوز وعيواظ)، لا يأتي هنا محاكاة مباشرة واسترضاء للمتلقي بفرجة الحكاية، بل هو استلهام للذكاء الشعبي، ودمج العناصر التي تشكل أجزاء المتعة والمعرفة والدلالة في حدود الإسقاط الواعي، أي ما يحرّض قابلية الجمهور لإنتاج تلك الدلالة، عبر الجمل الدرامية وتوترها البلاغي المفتوح. هذا ما يدفع لتأمل (استراتيجية) حكاية داخل حكاية، وبشكل أدق مسرح داخل المسرح، لتبلغ ذروة المشاهد في الحوار ما بين الشاعر المقاوم والفنان، (مشهور خيزران ياسر قماش). وفيما يقوله أبو السبل لرئيس بعثة السماء: (أكتب إلى مجلس السماء: لا فرق عندنا بين أولئك، وأولئك، تحالف الفساد والقتلة).
لا يكتفي العرض بالذهاب إلى دالاَّت (الصراع الطبقي، الإرهاب، المقاومة، مغامرة الشاعر، جدلية خيانة المسرح كما الوطن، استدعاء الدور النقدي للمثقف) بل إلى إعادة التوازن بعلاقة وجدلية المسرح والواقع، وإعادة البناء استشرافاً يستنهض أسئلة على مستوى الفن في مبادلة الأدوار ما بين الممثل والمتفرج والفرجة، وجعل المسرح حالة مقاومة، وخندقاً متقدماً في المواجهة، على الرغم من ضيق المساحة وتواضع الإمكانات، بهذا المعنى لا يمكن اختزال مسرحية (بعثة السماء) لمشاهد متنقلة، بل هي فيما وراء مشاهدها ومتفرجها الأول (صانع المشهد وخالقه، هي على أفق رؤيا لمثقف وطني أدرك أن (جمالية الحقيقة تساوي تجربة البحث عنها)، كما تواضع النقاد على اشتقاق ذلك المعنى الجميل، تلك الجمالية التي تدعو قارئها لتفحص الأصوات المصاحبة للبداية كما النهاية، سيما بصوت الشاعر المبدع طلال مرتضى بقصيدته المتميزة (إني سوري) في إضافتها إلى فضاء التلقي قيماً تعبيرية تزاوج تأليف النص في تزامنها لتبث جمالية المعنى، وحامله الآخر صوت الفنانة إيمان طرابيه المبعوثة السماوية، بتعبيريته الآسرة.
ويمكن القول إن ثمة دلالة في اختيار أسماء الشخصيات، التي تتناقض في واقعها الاجتماعي وتتحول في تاريخها، يبدو عرض (بعثة السماء) في تعميقه لتلك الدلالة فيما يعنيه القهر، والجشع، البراءة، الصفاء، محنة العلم وفضيلته، لنقف على دلالة الأسئلة التي بثها عرض جال غير منطقة في محافظة السويداء، كان جمهوره بطلاً ممكناً، وهو يعاين التقاط اليومي المؤرق باللغة المسرحية وهي تقرّب لبصره وبصيرته مفهوم (تجمع مسرح الناس) في محكياته التي تعيد إنتاج الواقع ولا تحاكيه، لتستمر الدلالة في الرمز البصري بحكاية معروفة، تماثل (منمنمة) وتفارقها بآن. ذلك ما يميز مشروع المسرحي مشهور خيزران، المجتهد في وقوفه على جدلية المقاومة مسرحياً، ف(بعثة السماء) مقاربة اعتمدت رؤيا، لا يبسِّطها توسُّلِ فعل الخلاص، تقوم على مقترحات تعيد الاعتبار للنص المسرحي المتخفف من سلطة الشكل، لتأخذنا إلى ما عناه برتولد برشت من أهمية الفرد العادي، الذي كتب لأجله وعنه. وفي نسجيها الدرامي، كانت روح ستانسلافسكي تجول بانتباه وشغف.
تحية لفريق عمل تجمع مسرح الناس في عروضه الناجحة، ومنهم من صعد خشبة المسرح لأول مرة، وهم حسب ظهورهم: رفعت بو عساف (الإرهابي + المرج) مشهور خيزران (الفنان المتجول) مها أشتي (السنبلة) دانا عرار (الصبا) إيمان طرابية (المبعوثة السماوية) ياسر قماش (الجوري التاجر كراكوز) ميساء نصر (معلمة الصف) شادي حاطوم (الخفاش) جمانة منصور (إرهابية تركية) اعتدال شقير (أم العوسج). ربيع عرار (العوسج)، وكذلك للفريق التقني الذي جعل العرض ممكناً وضرورياً.