النظام التربوي.. التعليمي ومتطلبات التطوير

لا ريب في أنّ نظامنا التربوي في سورية يتحمّل مسؤوليات واسعة وخطيرة، يأتي في طليعتها تنمية الثروة البشرية التي لا غنى عنها في تحقيق التنمية الشاملة والحفاظ على أمن الوطن وسلامته، وحجز موقع له على خارطة العالم الجديد؛ وذلك لأنّ سورية تعيش اليوم تحولات كبيرة لها بالغ الأثر في سلوك الناس وفي تعاملهم مع المحيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يعيشون فيه.

وبما أنّ النظام التربوي لا يعمل في الفراغ وإنّما يعمل في منظومة اجتماعية لها جذور تاريخية عميقة في الثقافة المحلية، فإنّه من الطبيعي أن تنعكس السلبيات الموجودة في المجتمع على البيئة التعليمية، وهي تعود بالدرجة الأولى إلى أسباب اجتماعية وثقافية فرضتها الحرب الإرهابية العالمية على وطننا الحبيب.

لقد ولّدت الأزمة السورية توجّهاً لازماً  نحو الاهتمام بشؤون التربية وتطوير نظامها لكي يتمكّن التعليم من خلق المواطن السوري الجديد القادر على مواجهة احتمالات مستقبل ما بعد الأزمة، لذلك فإنّ معظم الدراسات التربوية المستقبلية تشير إلى أنّ مواجهة تحديات العصر تتطلّب جيلاً من المعلّمين أكثر التزاماً وتحمّلاً للمسؤولية وقادراً على تخريج نوعية جديدة من المتعلمين القادرين على تنمية أنفسهم وفهم الآخرين، والمساهمة في بناء مجتمع يكون فيه العيش أيسر وأكثر عدالة دون أن ينفصلوا عن جذورهم، ودون أن يشعروا بالتمزّق بين مفرزات الأزمة والبحث عن الجذور والانتماءات. إنّ مدرسة المستقبل ومن خلال معلّميها مدعوّة إلى العمل على تنمية الشخصية المتكاملة لجميع التلاميذ دون استثناء، وتطوير نموهم الفكري وقدراتهم العقلية، واستثمارها إلى أقصى مدى، وتشجيعهم على المناقشة والحوار والتساؤل والنقد والتفكير الحر، وعلى المشاركة الديمقراطية واتخاذ القرارات المسؤولة وقبول الرأي الآخر.

وقد أوضح الدكتور جبرائيل بشارة أنّه (على الرغم من تشابك العوامل المؤثرة في العملية التعليمية التعلمية وتعقّدها، فإنّ المعلّم ما يزال يشكّل محور العملية التربوية وعصبها الرئيس الذي يتوقّف عليه نجاح التربية في تحقيق أهدافها)، إذ تبرز أهمية أدوار المعلّم كعامل تغيير ونحن نلج مرحلة العد التنازلي للأزمة السورية، وهنا تتوضّح الحاجة إلى التغيير من التعليم التقليدي إلى التعليم الراقي النوعية، ومن التعصّب والتحيّز الثقافي إلى التسامح وفهم التعدّدية، ومن عالم يسوده التناحر والمزاحمة إلى عالم التعاون والمشاركة والتراحم. وممّا تجدر ملاحظته في أحوال اليوم أزمة القيم، أو تآكل القيم الأخلاقية، إن صحّ التعبير، إذ تسود العالم النزاعات الدينية والمجاعات والفوضى الاقتصادية والصراعات السياسية والعنف بين أبناء الوطن الواحد. لقد أصبح السلطان للمال، له يُسخّر ذكاء الإنسان، فالموارد البشرية والوسائل المادية المعبّأة لكسب المال ومضاعفته، أكثر من تلك التي تسخّر لإنقاذ البشر المهددين بالمجاعة والفقر والجهل. من هنا كان لا بدّ من إيلاء البعد والحس الإنساني الأهمية اللازمة في تربية الشباب وإشاعة المشاركة والتواصل والإضطلاع بالمسؤولية الخلقية، وذلك في مواجهة التجزّؤ والأنانية والمصلحة الفردية واللامسؤولية والتمركز حول الذات. وانطلاقاً من ذلك فإنّ  (نجاعة أي نظام تربوي، إنما تُقاس بمدى قدرته على إيجاد التوافق والانسجام بين الطموحات الذاتية للمتعلّم الفرد، وبين متطلبات التنمية المجتمعية الشاملة التي تتغير باستمرار). كذلك فإنّ معلّم المستقبل مدعوّ إلى إيجاد حل لرفع مستوى التفكير العلمي النظري والتجريبي عند المتعلمين، بما يضمن لهم القدرة على التفكير الموضوعي النقدي، لمواجهة الغزو الثقافي والقيمي وتأثيراته على أنماط السلوك والتفكير، وفلسفة الحياة.

من هنا كانت رسالة المعلم هي رسالة تربوية قبل أن تكون رسالة تعليمية، فالمعلّم مربٍّ قبل كل شيء والتعليم جزء من عملية التربية؛ ويتأكد هذا الدور بشكل أكبر في ظل تداعيات الأزمة السورية التي نعيشها اليوم، الأمر الذي يفرض على المعلّم أن يتفهّم التحديات القائمة وأن يستلهم مجموعة من الواجبات، من أبرزها:

1. الاطلاع على سياسة التعليم وأهدافه في الجمهورية العربية السورية والسير على أساسها لتحقيق الأهداف المرجوّة منها.

2. الانتماء إلى مهنة التعليم وتقديرها من خلال استشعار أهمية الأمانة الملقاة على عاتقه، ومراقبة ضميره في أداء رسالته.

3. تطوير إمكاناته المعرفية والتربوية ومتابعة التطورات العلمية في مجال تخصصه.

4. التعاون الصادق مع المجتمعين المدرسي والمحلّي لتوطيد علاقة المدرسة بالمجتمع.

5. الاعتماد على اللغة العربية الفصحى في التدريس.

6. تنمية القيم الأخلاقية والسلوكية التي تشجع على التكافل والتضامن لحل مشكلات التفاوت والفقر، التي تتفاقم. (وذلك لأننا حينما نقوم بتعليم الفرد من الناحية العقلانية وليس من الناحية الأخلاقية، فإننا بذلك نصنع إنساناً يمثّل خطراً على المجتمع).

7. تعليم المتعلّم كيف يتعلّم من خلال إكسابه استراتيجيات التعلّم الذاتي.

8. تشجيع التعلّم التعاوني بين التلاميذ أنفسهم ومع المعلّم أيضاً.

9. الإسهام في تطوير العملية التربوية ولاسيما المناهج التعليمية من خلال بناء مناهج دراسية تُعِدّ المتعلّم للمستقبل الذي لا يمكن تحديد ملامحه إلا بناءً على افتراضات متعددة المناحي، إضافةً إلى تقوية الهوية الوطنية والتمسك بقيم المجتمع.

إنّ التّحدي المطروح الآن هو: كيف نجعل التربية والتعليم قوّة حركية تبعث الحياة في الواقع الحالي، وتساعد على إرساء دعائم الديمقراطية وتجعل منها قيماً وسلوكاً ونهج حياة؟

لقد أشار محمد وعبد الرؤوف عامر في منظورهما إلى الديمقراطية المدرسية، إلى أنّه من الصّعب على المعلّم المتطوّر (الإسهام بفاعلية في ترسيخ منظومة القيم الأخلاقية والعلمية والتفكير الواعي، والنقدي والجدلي بمعزل عن فضاء تربوي ديمقراطي توفّره مدارس اليوم). على أن نأخذ بعين الاعتبار أن الجمع بين الحرية والديمقراطية لا بدّ من أن يكون في إطار من الضوابط الأخلاقية التي تحفظ جوهر الدين في إطار الترابط المجتمعي.

ويظهر هنا دور المعلّم في مواجهة هذا التحدّي من خلال التخلّص من النمط التعليمي التلقيني الذي يقلّص قدرات المتعلمين ويشلّ حركة تفكيرهم، واعتماد نمط تعليمي تفاعلي يقوم على إيجابية المتعلّم في الحوار والمناقشة واستخدام التفكير الناقد، الذي يمكّنه من بناء تصوّراته الذاتية والسليمة حول مختلف المفاهيم وخاصة مفاهيم الدِّين والأنبياء والرّسل، وتحرير الطاقات الفكرية الإبداعية للمتعلّمين على نحو يمكّنهم من رسم مستقبلهم وملامح هويتهم الوطنية والقومية بشكلٍ عفويٍ وصادقٍ إلى أبعد مدى؛ ذلك أن معظم الدراسات التربوية والنفسية تشير إلى أنّ نجاح المعلّم في تشكيل بؤرة الضبط الداخلي عند المتعلّم، هو من الغايات التربوية البعيدة المدى والتي تسهم بشكل تدريجي في بناء شخصيّة وهويّة المواطن الصالح في المجتمع.

لذا فإنّ الاستجابة لمتطلبات التغيّر في سياسات التربية وأهدافها ومضامينها، تضفي على دور المعلّم أهمية متزايدة وشأناً أكبر، فتطوير المناهج الدراسية من حيث الأهداف والمحتوى والطرائق والأساليب التعليمية وأساليب التقويم، وترجمتها إلى واقع تربوي حيّ، إنّما يعتمد على المعلّم من حيث كفايته ووعيه بمهامه وإخلاصه في أدائها، لأنه القادر على تحقيق أهداف التعليم، إذ أنّ المعلم الجيّد حتى مع المناهج المتخلّفة؛ يمكن أن يُحدِث أثراً طيباً في تلاميذه، بينما المعلّم السيئ حتى مع المناهج الجديدة؛ لا يمكنه أن يقدّم شيئاً.

والمعلّم هو العنصر الأساسي في أي تجديد تربوي، لأنه أكبر مُدخلات العملية التربوية وأخطرها بعد التلاميذ، من حيث أنه مُشارك رئيس في تحديد نوعية التعليم واتجاهه، وبالتالي نوعية مستقبل الأجيال وحياة الوطن. إنّه يمارس دور الوسيط بين التلاميذ ومصادر المعرفة وذلك من خلال استخدام الطرائق التعليمية والاستراتيجيات التدريسية الحديثة في تكوين البناء المعرفي والمهاري والقيمي عند التلاميذ، كما أنه تقع على عاتقه تنمية قدرات التلاميذ ومهاراتهم عن طريق تنظيم العملية التعليمية التعلّمية، وضبط مسارها التفاعلي، ومعرفة حاجات التلاميذ وقدراتهم واتجاهاتهم وطرائق تفكيرهم وتعلّمهم، هذا إضافة إلى الدور الريادي الذي يلعبه المعلّم، فهو رائد اجتماعي يسهم في تطوير المجتمع وتقدّمه؛ عن طريق تربية النشء تربية صحيحة، تتّسم بحب الوطن والدفاع عنه، والمحافظة على التراث الوطني والإنساني، واحترام الآخر، وإذكاء روح التعاون بين التلاميذ وتدريبهم على الضبط الذاتي، وغرس قيم العمل الجماعي في نفوسهم وتعويدهم على الحياة الديمقراطية في حياتهم اليومية.

من هنا ينبغي على المعلم أن يجسّد مبدأ ديمقراطية التعليم على أرض الواقع، من خلال تنويع الأساليب والتقنيات التربوية المستخدمة، تبعاً للحاجات النوعية لتلاميذه، كما يتطلّب منه أيضاً استخدام التقويم المدرسي في بُعديه التشخيصي والتطويري، لتحديد صعوبات التعلّم بدقة، واستنباط أشكال التدخل الضامنة للتطوّر المنشود، على أن يراعي عند ذلك؛ نسق التطوّر الخاص بالتلاميذ المتفوقين، مما يتطلّب منه السعي إلى تمكين أكبر نسبة من التلاميذ من المعارف والمهارات والقيم الضرورية لمتابعة الدراسة دون إخفاق، وتفادي الآثار السلبية للفشل الدراسي على شخصية التلميذ في أبعادها المختلفة ولا سيما في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها نظامنا التعليمي.

إنّ التحولات التي يمر بها نظامنا التعليمي، تُملي على المعلّم أدواراً جديدة، إلا أنه في أدائه لهذه الأدوار (لم يعد مطالباً بمسايرة التغير، والاستجابة لمتطلباته فحسب، بل يُنتَظرْ منه أن يكون فاعلاً في سيرورة التحوّل). فدور المعلّم كفاعل اجتماعي، لا يقتصر على مواكبة التحديات الحاصلة، وإنما لا بدّ أن يكون طرفاً في إحداث التغيير كلّما استوجبَ الوضع ذلك، لذا فالمعلم مُطالَب بـ(أن يواكب العصر في مجال خبرته والمواد التي يدرّسها، وأن يتبنّى ثقافة الاستقصاء والتعلّم الذاتي في سبيل المحافظة على نموّه المهني). وهو مدعوّ لإقامة علاقات إيجابية مع زملائه وتلاميذه وسائر مكونات مجتمعه المحلّي، لتطوير العمل المدرسي وتنمية المحيط الاجتماعي المباشر اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

ولكي يكون المعلّم فاعلاً في سيرورة التحوّل، ويتمكّن من المساهمة الإيجابية في تحديد ملامح الإنسان، الذي يتوجّب على التربية تكوينه، فإنّ عليه أن يكون مشاركاً في وضع المناهج التربوية، أهدافاً ومضامين وطرائقَ تعليميةً وأساليبَ تقويم، وأن يبدي انفتاحاً على ما يستجد من تقنيات حديثة من أجل توظيفها لإحداث التعلّم النّشِطْ. وفي نهاية المطاف؛ نرى أنّ المعلّم السوري اليوم مدعوّ، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى أن يكون ملتزماً بوطنه وقضاياه، عارفاً بالتحولات الخطيرة التي يمرّ بها المجتمع العربي عامةً والمجتمع السوري خاصّةً والتّحديات والصراعات القائمة فيه، مؤمناً برسالته المقدّسة.

قائمة مراجع البحث

1. الأحمد، خالد طه (2006) الجودة في تكوين المعلمين، هيئة الموسوعة العربية، في رئاسة ج. ع. س.

2. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (1996) تعزيز دور المعلّم في عالم متغيّر.

3. بشارة، جبرائيل (1997) نحو رؤية مستقبلية للتعليم في الوطن العربي، المجلّة العربية للتربية، م17/، ع/1.

4. بشارة ،جبرائيل (2003) المعلّم في مدرسة المستقبل، دار الرضا، سورية، دمشق، ط/1.

5. دينس آدمز، ماري هام (1999) تصميمات جديدة للتعليم والتعلم، سلسلة الكتب المترجمة (11) وزارة التربية والتعليم، مصر.

6. ربيع، هادي مشعان (2009) معلّم القرن الحادي والعشرين، مكتبة المجتمع العربي للنشر والتوزيع، الأنبار، العراق.

7. محمد، أشرف السعيد أحمد (2008) الجودة الشاملة في المؤسسات التعليمية بين رؤية ما بعد الحداثة والرؤية الإسلامية، دار الجامعة الجديدة، الأزاريطة، مصر.

8. محمد، ربيع وعبد الرؤوف عامر، طارق (2008) الديمقراطية المدرسية، دار اليازوري، عمّان، الأردن.

9. Reed, Jane and Myers, Kate and Macgilchrist, Barbara  (2006)) المدرسة الذكية، ترجمة د. محمد أمين عبد الجواد، د. موسى فايز أبو طه، دار الكتاب الجامعي، غزّة، فلسطين.

العدد 1140 - 22/01/2025