وماذا بعد الكذب؟!
جرت العادة أن تحتفل الشعوب في بداية شهر نيسان بكذبة أول نيسان، فيتسابق الناس إلى نسج الأكاذيب فيما بينهم بهدف المزاح، فنرى جميع أفراد الشعب من أطفال في المدارس إلى عمال في المعمل وموظفين في مؤسساتهم، الجميع يكذب، الأب على أولاده والمدير على موظفيه والحكومة على الشعب، يبقى السؤال: لماذا تحتفل الشعوب بعيد الكذب، ولا تحدد يوماً للاحتفال بالصدق وقول الحقيقة؟!
من المعروف أن الطفل يولد صادقاً، لا يعرف الخداع والكذب واللف والدوران، ولكنه يكتسب هذه السلوكيات من البيئة التي يعيش فيها، وكلما تقدم في العمر تصبح بالنسبة إليه نهجاً يستخدمه لتحقيق أهدافه وطموحاته، خاصة عندما لا يجد من يردعه، أو لأنه يجد بأنه الأسلوب الذي يساعد على النجاح في المجتمع، فمثلاً المدير الذي يستغل فكر موظف لديه وإمكاناته ليرتقي، يفتح المجال أمام جميع الموظفين للتطاول بعضهم على البعض الآخر، لأنهم وجدوا أن هذا هو الأسلوب المناسب للارتقاء وتطوير مكانتهم الوظيفية، دون الانتباه لأهمية تطوير الكفاءة المهنية والعلمية.
يتحدث الجميع عن الصدق وأهمية قول الحقيقة، ولكننا للأسف أصبحنا نعيش في عصر يعتبر فيه الإنسان الصادق والمستقيم إنساناً ساذجاً، وأصبح الإنسان الذكي اجتماعياً هو الذي يستغل أخاه الإنسان ويتدخل بشؤون غيره ويقوم بنشر الشائعات والأكاذيب حوله.
لماذا تجري محاربة الإنسان الناجح بالتشهير به، عوضاً عن احترام نجاحه ودعمه؟ ومتى اكتسب الإنسان السوري هذه الصفات؟!
من المعروف عبر التاريخ أن السوري هو شخص يتحلى بالشجاعة والأمانة والصدق، فأين هذه الصفات التي كان يشتهر بها مجتمعنا ويتغنى بها الكتاب والشعراء الأجانب؟! ما الذي حدث كي نسمح لثقافات مختلفة عن هويتنا أن تتدخل في طريقة تربيتنا لأولادنا وتنشر الفساد في أسرنا ومدارسنا ومؤسساتنا العاملة في المجتمع؟! لماذا غرقنا في بحر من السطحية، بعد أن كنا شعباً جدياً يعمل بأمانة وإخلاص؟! هل السبب هو في تنشئتنا الخاطئة لأولادنا، أم في عدم الإعداد الصحيح للزواج بحيث فقد الأب والأم دورهم الإيجابي آباء ومربين؟ أم السبب هو كذب الإعلام على الناس وإلهائهم بتوافه الأمور كي يغرقوا في السطحية، وبالتالي ينخفض مستوى الوعي لدى الشعب؟! يبقى السؤال: ما هو الهدف من وراء تجهيل الناس؟ وما هو دورنا، بصفتنا مربين، في مواجهة هذا التيار الذي يجتاح مجتمعنا؟!
بالدرجة الأولى علينا الإيمان بأنه لا توجد حكومة تسمح بأن يغرق شعبها في الجهل وأن يكذب أفرادها جميعهم بعضهم على البعض الآخر، وإنما نحن من نفتح المجال لأنفسنا باستخدام أدوات سلبية وخاطئة، لذلك نحن في حاجة، بالدرجة الأولى إلى بناء علاقة صحيحة مع ذواتنا كي نتمكن من التعامل مع المشكلات النفسية من غيرة وحسد تعاملاً صحيحاً، عندئذ فقط نستطيع الانطلاق من أنفسنا وبناء علاقة صحيحة مع الآخر، وهكذا يبدأ النهج الإيجابي والحقيقي بالانتشار تدريجياً بدءاً من الأسرة النواة الأولى في المجتمع، ثم في المدرسة، وبعد ذلك في المؤسسات الحكومية والأهلية.
كي نتمكن من تحرير مجتمعاتنا من حالة الكذب التي سيطرت عليها، علينا البحث في الأسباب التي أدت إلى نشأته وانتشاره؟!
يتدرج تطور الطفل السلوكي ونموه بدءاً من الأسرة ثم الحارة التي يلعب فيها بعد ذلك المدرسة وأخيراً المكان الذي يعمل فيه، فإذا كانت البيئة التي ينشأ فيها تتصف بالخداع والكذب والتشكيك في قول الحقيقة، فعلى الأغلب سيتعلم هذه الاتجاهات السلوكية والأساليب في مواجهة مواقف الحياة كي يتمكن من تحقيق أهدافه. ومن الغلط القول بأن الطفل لا يستطيع التمييز بين الصدق والكذب، خاصة فيما يتعلق بميوله ورغباته، لذلك فالطفل الذي يعيش في بيئة لا تساعد على تثبيت اتجاه الصدق لديه وتدريبه عليه، يسهل عليه الكذب خاصة إذا كان يمتلك مهارات لغوية أي يتمتع بلباقة اللسان، ويمتلك خيالاً خصباً إضافة إلى تقليده لمن حوله.
يبقى السؤال: ما هي الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الكذب؟!
1. يلجأ البعض إلى الكذب لتغطية الشعور بالنقص الذي يشعرون به، وذلك بالمبالغة في الحديث عن صفاتهم التي يمتلكونها، أو صفات ذويهم كي يشعروا بأنهم محور الاهتمام من قبل الآخرين، وقد يلجأ البعض إلى الكذب فيتهمون الغير بتعذيبهم أو ضربهم أو اضطهادهم، كأن يدعي طفل في المدرسة بأن المعلمة دائمة التعذيب له وذلك بهدف لفت انتباه والديه إليه أو ليبرر تأخره الدراسي.
2. هناك بعض الأطفال فقدوا الثقة بوالديهم بسبب معاملتهم القاسية لهم فيلجؤون إلى الكذب كي يحققوا رغباتهم، فمثلاً: إذا سألتهم هل يملكون لعبة؟ أجابوا بالنفي، بالرغم من امتلاكهم لها، وذلك بهدف الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأشياء، وذلك لفقدانهم الثقة بذويهم.
3. وهناك مجموعة أخرى من الناس تكذب بدافع الحقد والكراهية والغيرة، لذلك تستخدم الكذب وسيلة للانتقام، فنراهم يكذبون لإسقاط اللوم على شخص يغارون منه، وهذا النوع من الكذب هو من أخطر الأنواع على الصحة النفسية للإنسان وعلى كيان المجتمع ومثُله ومبادئه، وذلك لأن الكذب الناتج عن الحقد والكراهية يحتاج إلى تخطيط وتدبير مسبق بهدف إلحاق الضرر والأذى بالشخص المكروه.
4. يكذب البعض لأنهم يعيشون في مدارس أو أسر تتبع نظاماً صارماً في المعاملة، لذلك يخفون الحقيقة خوفاً من العقاب، فنجدهم يتفننون في الكذب مستخدمين ذكاءهم في الانتقال من كذبة إلى أخرى، ولكي يفلتوا من العقوبة يلصقون التهمة بشخص بريء، وقد يلجأ إلى هذا النوع من الكذب الأشخاص القلقون وغير المرتاحين نفسياً.
ما هو الحل إذاً، ومن أين نبدأ؟!
* من الضروري أن نفتح باب المغامرة للطفل لكي يكتسب خبرة اجتماعية بتفاعله مع الآخرين، فالحماية الزائدة للطفل تضعف شخصيته وتجعله يلجأ إلى الكذب لإثبات ذاته.
* خلق بيئة مليئة بالحب والحنان كي يتمكن من التحرر من رواسب الحقد والكراهية، وذلك بأن يكون الآباء والمربون قدوة حسنة، والتقليل من أسلوب الوعظ والإرشاد.
* الوفاء بالوعد، لأن أكبر صدمة يمكن أن تصيب الطفل تنتج من عدم الوفاء بالوعود وعدم الالتزام بالاتفاقات.
أخيراً إن العطف والحنان والمحبة غير المشروطة من أهم الأدوات لإشباع الحاجات النفسية لأي شخص بهدف مساعدته على النمو والتطور بطريقة إيجابية، لذلك علينا أن ندرك أن المشاكل التي يعاني منها مجتمعنا ومؤسساتنا هي بسببنا، لأننا سمحنا لأنفسنا بأن نكتسب ثقافات بعيدة كل البعد عن قيمنا وأخلاقنا.