الصبان وصالح في ذمة الله شهادات في رحيل صاحب «زائر الفجر»… و«سندباد السينما العربية»

ودَّعت الأوساط الفنية والثقافية في مصر والوطن العربي الناقد وكاتب السيناريو السوري الدكتور رفيق الصبان، الذي يقيم في القاهرة منذ عام ،1970 وذلك ليلة السبت (17 الجاري) عن 79 عاماً. بعد نصف قرن مع الفن إدارة وكتابة ونقداً، قضى معظمها في مصر ونال شهرته فيها. كتب الراحل أكثر من 25 فيلماً سينمائياً أهمها: (زائر الفجر) ،1972 و(الإخوة الأعداء)، و(ليلة ساخنة). وآخرها فيلم (الباحثات عن الحرية) مع المخرجة إيناس الدغيدي. كما كتب نحو 16 عملاً درامياً. وكان د. الصبان يعمل أستاذًا لمادة السيناريو في معهد السينما في القاهرة،  وهو حاصل على وسام الفنون والآداب الفرنسي من درجة فارس.

خسارة أخرى منيت بها السينما المصرية خصوصاً، والعربية عموماً، وذلك بوفاة  المخرج السينمائي توفيق صالح، صباح الأحد (18 الجاري)، عن عمر يناهز 87 عاماً، بعد معاناة مع المرض. يعد صالح أحد رواد السينما الواقعية المصرية رغم قلة أفلامه الروائية (7 أفلام) أهمها: (درب المهابيل) ،1954 و(صراع الأبطال)، و(يوميات نائب في الأرياف)، و(السيد البلطي)، و(المخدعون). وقد لقب الراحل ب(سندباد السينما العربية) لانتقاله بين عدة بلدان عربية والاشتغال فيها.

(النور) سجلت شهادات لثلاثة نقاد بالمناسبة..

يقول الكاتب والناقد السينمائي محمد عبيدو: برحيل الناقد رفيق الصبان ومن بعده بعدة ساعات رحيل المخرج الكبير توفيق صالح الذي قدم بتفرد أعمالاً فارقة في لغة السينما العربية ومضمونها… يكون هذا اليوم يوماً حزيناً في تاريخ السينما المصرية والعربية. الوسط الفني والثقافي فقد رجلاً قدم الكثير للفن في مصر والعالم العربي ناقداً ومؤلفاً وأستاذاً أكاديمياً وعاشقاً لفن السينما. من بدء مسيرته عن طريق المسرح السوري حيثُ أخرج عدداً من الأعمال المسرحية في سورية، وانتقاله بعدئذ إلى مصر ليكتب فيلم (زائر الفجر) عام ،1972 لتبدأ مسيرته السينمائية الطويلة التي امتدت لنحو 52 فيلماً.

 جمعتنا مع د. رفيق الصبان عدة لقاءات منذ بداية الثمانينيات في مهرجانات مصر السينمائية، وفي مهرجان دمشق السينمائي، ضيفه الدائم والمشارك في فعالياته، وهو أستاذ لنا، بكتاباته النقدية الهامة عبر متابعتنا له ولمجايليه من النقاد تأسست ذائقتنا السينمائية. وكانت متعة شخصية لي في السنوات الأخيرة، قراءة تغطيته النقدية الجذابة للأفلام الجديدة في زواياه الأسبوعية بجريدة (القاهرة).

 الدكتور الصبان مبدع مهذب ذو قيمة فنية عظيمة. طوال عمله أستاذاً لمادة السيناريو في معهد السينما بمصر، ربى أجيالاً في معهد السينما، وذوقه وآراؤه في السينما والأدب والمسرح والموسيقا ساهمت في تشكيل ذوقهم الفني، وطوال وجوده في القاهرة. ويشارك د. رفيق الصبان بالتعليق على الأفلام بالتحليل السينمائي لتحفيز الجمهور على التفاعل مع الواقع السينمائي العالمي على نحو أعمق مع عروض نادي السينما بالمسرح الصغير بالأوبرا . رحل رفيق الصبان بجسده وتبقى إسهاماته في السينما والنقد السينمائي والسيناريو والمسرح خالدة ومستمرة مع الأجيال).

وباتصالنا بالناقد السينمائي السوري عوض القدرو قال في رحيل السينمائي توفيق صالح: ((المخدوعون) واحد من أبرز أفلام السينما السورية والعربية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق. هذا الفيلم الذي حمل توقيع المخرج الراحل توفيق صالح الذي خرج من القاهرة عاصمة السينما العربية 1972 متجهاً إلى دمشق حاملاً مشروعه وحلمه السينمائي الخالد ( المخدوعون)، والذي تبنت إنتاجه بالكامل المؤسسة العامة للسينما في سورية. لم تكن مؤسسة السينما في ذلك الوقت تمتلك القاعدة الفنية والتقنية الكاملة، ومع ذلك لم يكن دخول توفيق صالح في معركة إخراج فيلم (المخدوعون) مغامرة سينمائية بقدر ما كان هماً سينمائياً ووطنياً كبيراً. بهذا الفيلم قدم توفيق صالح الحزن الذي غالب غسان كنفاني مثلما غالب كل الشعب الفلسطيني والعربي. وصالح لم يكن يريد من فيلمه هذا أن يكون مجرد رقم في مكتبة السينما العربية والسورية، بل أراد له أن يكون شاهداً بصرياً على مر الزمان لسينما عربية واقعية حقيقية لن تموت. سينما شديدة الأمانة والإخلاص للرواية العربية.

غسان كنفاني كان حاضراً بكل لقطة من لقطات (المخدوعون)، الذي أصر توفيق صالح حسب ما يقول أقدم مدير إنتاج في المؤسسة العامة للسينما، على تصوير مشاهد الفيلم في أقرب مكان ممكن حسب ما ورد في رواية غسان كنفاني. وصُوِّر الفيلم في ظروف صعبة جداً وأقرب إلى المكان المذكور في الرواية، فكان أن صُوِّر في الصحراء السورية بالقرب من الحدود العراقية – السورية.

ومن يذهب إلى مستودعات المؤسسة العامة للسينما فسيجد حتى هذا اليوم السيارة التي استعملت في هذا الفيلم (شاهدة عصر) على عظمة هذا الفيلم. كذلك الأمر من يطالع تاريخ توفيق صالح السينمائي يكتشف أن الرواية العربية كانت الحافز والمستفز لحماسة توفيق صالح السينمائية. ومن هنا جاءت أفلامه واقعية وقريبة جداً من نبض الشارع العربي. ف(يوميات نائب في الأرياف) أو (السيد البلطي) أو (المخدوعون) أو (زائر الفجر) لم تكن تلك الأفلام حدثاً عابراً في مسيرة السينما العربية، لكنها أضحت أمثولة وشاهدة عصر على سينمائي حمل هم وحلم الأدب العربي الصريح المكتمل الملامح ليحلق به سينمائياً كبيراً بكل شيء. نعم رحل توفيق صالح  لكن كل دروب السينما الجميلة تؤدي إلى ذاكرة يوميات ذلك السينمائي الكبير الذي سيبقى كثيراً في ذاكرة السينما العربية.

وأخيراً يقول الناقد السينمائي بشار إبراهيم ل (النور) في تأبين الراحلين الصبان وصالح: قرّر رفيق الصبان بعد تجربته المثيرة في المسرح السوري، الرحيل إلى مصر، التي كانت مهوى أفئدة الباحثين عن مكان تحت شمس النجومية والشهرة. ومن المسرح إلى السينما كانت انتقالته، التي جعلته في قرابة خمسين سنة من العمل أحد أشهر النقاد الفنيين، وكتاب السيناريو، فضلاً عن مساهماته في مجالات التدريب والتعليم والتدريس، والحضور في العديد من المهرجانات السينمائية.

في السينما، اختطّ رفيق الصبان لنفسه منهجاً خاصاً، لا يختلف عما كان يريده من قبل في المسرح. وما لم يستطع تحقيقه هناك، حققه هنا. مجموعة من السيناريوهات السينمائية، في أفلام تتراوح قيمتها الفنية، لكنها في غالبيتها تكاد تتفق على الرغبة الدائمة التي لم تفارق الصبان في النهل من الثقافة الغربية، والاتكاء على علامات أدبية شهيرة، وربما الخوض في بعض الموضوعات الشائكة. دون أن يعني أنه كان راغباً في خوض أيّ معارك في هذا الصدد. دائماً حمل رفيق الصبان صفة (السوري المقيم في مصر)، وعلى رغم اندماجه التام في مناخ فني مصري، أعطى كلاً منهما الآخر ما لديه، إلا أنه لم يفقد عودات وإطلالات على المشهد السينمائي السوري، أبقته في صورة (الطائر المهاجر)، حتى في تلك الأزمنة التي غابت فيها هذه الظاهرة. ومن مصادفات القدر، أن يتزامن رحيل الناقد رفيق الصبان، مع رحيل المخرج توفيق صالح، الذي قام برحلة معاكسة تماماً، إذ في وقت ذهب الصبان إلى مصر، لتحقيق أحلامه السينمائية، في ستينيات القرن العشرين، حضر توفيق صالح إلى سورية، لتحقيق مشروعه السينمائي (المخدوعون)، الذي لم يجد له فرصة للتحقق في مصر.

رفيق الصبان، توفيق صالح، علمان سينمائيان كبيران، من جيل الروّاد، بنى كل منهما حضوره، وخصوصيته، ووضع بصمته. وهما باختلافهما كانا يشكلان إغناءً وإثراءً للمشهد السينمائي العربي. وبرحيلهما يتركان طعم الخسارة اللاذع. لهما أياد بيضاء، وذكريات لا تنسى.

العدد 1140 - 22/01/2025