مساهمة نحو تعريف محدودي الدخل في أقطار الوطن العربي
تتعرض اقتصادات أقطار الوطن العربي لعوامل التغيير المستمرة وتراوح فيما بين الرواج والركود لأسباب داخلية وخارجية. وتمر بتغيرات هيكلية، إذ تجتاح أقطار الوطن العربي في هذه المرحلة من تطورها موجات متصاعدة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية، نتيجة لتطبيق نهج الليبرالية الجديدة، وما يسمى ببرامج التصحيح الهيكلي والأخذ بالخصخصة. أي تحويل العديد من المؤسسات المملوكة للقطاع العام إلى ملكية القطاع الخاص، إضافة إلى سبل الدعم والإعفاءات الضريبية الواسعة الممنوحة لتوسيع حجم القطاع الخاص ودور ه في الحياة الاقتصادية والحّد من تدخّل الدولة وانحسار أداتها المتمثلة بالتخطيط التوجيهي، لصالح زيادة فعالية آلية السوق.
وهذه التغيرات لها بالتأكيد أبعاد توزيعية يتلمس المراقب بيسر آثارها السلبية على حياة غالبية السكان ومنهم محدودو الدخل ومن لادخل لهم من العاطلين عن العمل، إذ يتدهور نصيب الأُجراء من الناتج المحلي لصالح زيادة نصيب المالكين لوسائل الإنتاج، وتزداد البطالة وفقدان الدخل، وتدهور شروط التبادل التجاري وزيادة التسرب من الفائض الاقتصادي المتحقق محلياً إلى الخارج. وفي الأقطار التي ينتج فيها النفط يزداد الاعتماد على ريع النفط (والغاز) في إيرادات الموازنة العامة للحكومة.
وبداية الطريق للتخفيف من معاناة هذه الفئات الاجتماعية الواسعة، ممن تتدهور مستويات معيشتهم بسبب الارتفاع المستمر في أسعار حاجاتهم الضرورية، هو المساهمة في تعريف من هم ذوو الدخل المحدود.
معايير التعريف
لتعريف أي مفهوم اقتصادي – اجتماعي، يلزمنا أن نحدد المعايير النوعية والكمية التي نستند إليها في هذا التعريف. وفيما يخصّ محدودي الدخل، ونظراً لقلة البيانات التي نجدها في تعدادات السكان في الحصر الشامل أو العينة، وكذلك في بحوث إنفاق الأسر، وغالباً ما تكون معلوماتها قديمة نسبياً، كما أن المعلومات عن دخل ما يسمى بخط الفقر، إما أن تكون شحيحة أو غير موجودة، فيصعب علينا أن نعرّف محدودي الدخل بمن هم عند مستوى هذا الخط أو دونه. وفي بعض الأقطار لا نجد معلومات حتى عن الحد الأدنى للأجر.
ولهذا حاولنا رسم خارطة عامة كما هي في الشكل المرفق تبيّن التركيبة الاجتماعية بصورة تقريبية لمن يملكون وسائل الإنتاج ومن لا يملكونها، ومن يعملون بأجر ومرتب ومن لا يعملون، لتحديد ملامح من هم ذوو الدخل المحدود. وهذه المحاولة خطوة متواضعة على الدرب الطويل لإعداد بحوث ميدانية في كل قطر لتحقيق هذا الهدف وتطويره وفقاً للمستجدات.
وهذه الصورة الكلية التي لها أسبابها القائمة التي ينضح بها النظام الاجتماعي السائد، وإن اختلفت مكوناتها الجزئية في بعض أقطار الوطن العربي، إلا أنها تجمع السمات العامة المشتركة لهذا التباين الاجتماعي من حيث معيار الملكية، ومعيار الدخل، ومعيار العمل داخل المجتمع، على امتداد أقطار الوطن العربي.
مفهوم الملكية الذي يتكرر بهذا الشكل، المقصود به هو ملكية الأصول الإنتاجية والتوزيعية والمالية التي تستخدم مباشرة أو بصورة غير مباشرة العمل المأجور. أو تعتبر رأسمالاً للعاملين لحسابهم مثل ملكية صغار المزارعين أو الحرفيين، أو ملكية العقارات المدرّة للدخل وما شابهها. وهنا نفرّق بين الملكية الكبيرة والمتوسطة من جانب، حيث يتم فيها الفصل بين العمل المنتج وملكية وسائل الإنتاج ونتاجها، كما هو الحال لمن هم في (أ). والشكل الآخر المتمثل بالملكية الصغيرة كما هو الحال لمن هم في (ب)، الذين يجمعون بين عمل المنتج الصغير وملكيتهم لوسائل إنتاجهم ونتاجها الصغير الذي يولّد لهم دخلاً مقارباً لمعدلات الأجور في بلدانهم. في حين الملكية الكبيرة والمتوسطة يتولّد منها فائض اقتصادي بعد حسم عوائد العمل، يستحوذ عليه المالك كعوائد تملّك (فائض تشغيل) حسب تعابير نظام الحسابات القومية الصادر عن الأمم المتحدة.
ويمكن أن نستنتج مما تقدم أن الاحتياجات الأساسية وما فوقها المتمثل بالاحتياجات الترفية، بل وحتى البذخية منها، متاحة لمن هم في (أ)، لأن موقعهم الاجتماعي على صعيد الملكية يتيح لهم تكوين الطلب الفعال القادر على الشراء من الأسواق المحلية والخارجية لما يحتاجون إليه وما يرغبون فيه من هذه السلع والخدمات الأساسية زائداً السلع والخدمات الترفية (الكمالية)، بل وحتى البذخية التبذيرية من منظور متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لكل بلد وفي زمن معين. في حين من هم في (ب) على الرغم من كونهم في عداد المالكين، إلا أن صغر ما يملكه الكثيرون منهم، وبدائيته وتبعثره، يسبب ضعف قدراتهم الإنتاجية وانخفاض إنتاجية العمل لكل منهم. وفي إطار آلية السوق والارتفاع المستمر للأسعار، فإن دخولهم المحدودة تكاد لا تغطي متطلبات الطلب الفعال على احتياجاتهم الأساسية الضرورية (مع أفراد أسرهم) في ظل الظروف الراهنة أكبر من الطلب الفعال، المقتدرين على تكوينه، كقوة شرائية في إطار آلية السوق ونمط الاستهلاك السائد، اللذين يعمّقان التفاوت في التركيبة الاجتماعية الراهنة.
أما أصحاب المهن الحرة في (ج)، فبعضهم يشترك في الملكية لمكاتب المهندسين والمحامين أو العيادات الطبية أو الصيدليات وما يماثلها، تساعدهم في تكوين دخول توازي عند بعضهم أحياناً دخول من يمتلكون في (أ)، ولهذا توجد وشائج صلة معهم، وذلك من حيث مقدرتهم الدخلية على خلق الطلب الفعال القادر على شراء حاجاتهم الأساسية والترفية (الكمالية) من الأسواق المحلية والخارجية. أي أن طبيعة تخصصات الكثير منهم توفر الفرص لهم للاستحواذ على جزء من الفائض الاقتصادي يفوق متوسط معدلات الدخول لمن هم في (ب) وطبعاً لمن هم في (هـ).
وفيما يخص من هم في (د) من كبار الموظفين الحكوميين مدنيين وعسكريين ومن يماثلهم من النواب المنتخبين ومن مديري الشركات وأعضاء مجالس الإدارات، فإن دخولهم العالية (أجور ومرتبات زائداً بدلات وامتيازات) ليست وليدة موقعهم المتميز على صعيد الملكية الفردية الخاصة لوسائل الإنتاج والتوزيع، وإنما هي وليدة مواقعهم الاجتماعية التي تتيح لهم الاستحواذ على ريع من هذه المراكز القيادية العليا، مما يجعلهم أو يجعل غالبيتهم في وضع مقارب لمن هم في (أ) وفي (ج). وبالتالي فهؤلاء مثل أولئك قادرون على توفير ما يحتاجونه من سلع وخدمات أساسية وترفية (كمالية).
وبالنسبة لمن هم في (هـ) الذين يشكّلون عددياً (مع أفراد أسرهم) أكبر مجموعة في التركيبة الاجتماعية في أقطار الوطن العربي وداخل كل قطر منها، قد تزيد عن نصف أعضاء المجتمع. وهؤلاء لا يملكون إلا قوة عملهم المأجور لدى الغير، أي أنهم لا يملكون العناصر المادية لوسائل الإنتاج والتوزيع، وبالتالي تنحصر دخولهم بالأجر والمرتب، بمن فيهم أصحاب المعاشات التقاعدية. ويمكن أن نضيف إليهم من لا دخل لهم من العاطلين عن العمل.
وهذا الدخل المحدود (زائداً المكافآت وبعض الخدمات المدعومة أو المجانية، ناقصاً العبء الضريبي المتعدد الأشكال) عند الغالبية ضمن من هم في (هـ) يعجز عن تكوين الطلب الفعال القادر على تسديد إيجار المسكن (إن وجد) وشراء تلك الحاجات الأساسية من السلع والخدمات الضرورية، التي تمثل مستوى الكفاف عند الكثيرين منهم، وهو دون مستوى الحاجات اللازمة للإنسان المعاصر، وإن اختلفت مكوناتها من قطر عربي إلى آخر.
وبهذا المنظار إلى واقع التمايز الموجود في التركيبة الاجتماعية في أقطار الوطن العربي وفي كل قطر فيه، يمكن أن نتوصل إلى استنتاج عام مفاده أن من هم في (هـ) وفي (ب) كما هو موضح في الشكل والمؤشر عليهم ضمن محيط الدائرة هم الذين يكونون ذوي الدخل المحدود، وهم الأكثر حاجة للمجهودات الإنمائية. وذلك لأن موقعهم على صعيد الملكية والعمل وما يتولد عنهما من دخل ضمن الشروط الراهنة هو الذي يجسّد محدودية دخولهم القاصرة عن متطلبات تكوين الطلب الفعال (القدرة الشرائية)، في نمط عرض السلع والخدمات السائد وفقاً لآلية السوق وتعويم الأسعار. وهذا الوضع يجعل محدودي الدخل، وبضمنهم أصحاب المعاشات التقاعدية، ومعهم بالتأكيد من لا دخل لهم من المتعطلين عن العمل وهم بازدياد مستمر، وأفراد أسر هؤلاء جميعاً، يجعلهم في عوز ودون مستوى الإشباع اللازم ضرورياً وإنسانياً بالمفهوم المعاصر لحاجاتهم الأساسية. وبتعبير آخر، هناك لمن هم داخل محيط هذه الدائرة (هـ + ب) فجوة بين احتياجاتهم الأساسية وقدراتهم الشرائية الفعلية. وكلما توسعت هذه الفجوة ازداد الميل إلى دم الاستقرار الاجتماعي وتوفرت الأرضية لازدياد التطرف والمزيد من الهدر للإمكانات المادية والبشرية المحدودة نسبياً. وما نشهده مؤخراً من تنظيم داعش المتوحش خير دليل على ذلك.
وهذا الشكل الذي اعتمدناه في محاولتنا للمساهمة في تعريف محدودي الدخل، بحاجة إلى مؤشرات كمية إحصائية تعزز هذا التحليل. ولكن كما سبقت الإشارة فإن مصادر قاعدة المعلومات شحيحة في هذا الجانب. ولكن بصورة عامة فإن البيانات المتاحة تؤكد أن نسبة من يعتمدون في رزقهم على العمل المأجور عالية جداً بالنسبة لمجموع السكان ذوي النشاط الاقتصادي.
يلاحظ القارئ أننا لم نستخدم مفهوم طبقة على المجموعات التي تناولناها في الشكل التبسيطي لتوضيح التركيب الاجتماعي، وذلك لأن هذا المفهوم ما زال موضع جدل بين المهتمين بالقضايا الاجتماعية على الصعيد العربي. وكمثال، يتحرز بعض الاجتماعيين من استخدام مفهوم طبقة في هذا المجال، وفي رأيهم لا يمكن أن نطلق تسمية الطبقة البرجوازية، إلا إذا كان لها وعي بذاتها ووعي بمسؤولياتها في الإنتاج الاقتصادي وفي السلطة. ويقترحون كبديل الاكتفاء بنعتها بفئة الأغنياء أو المتوسطين الحال اقتصادياً. ومن المنطلق نفسه في رأيهم لا يمكننا أن نقول الطبقة العاملة، إذا لم تكن تعي بأنّ لها وعياً طبقياً، ويقترحون الاكتفاء بالقول فئة العمال أو الشغيلة.
ومع احترامنا لوجهة النظر هذه، لكن لا يمكن إغفال المكونات الاخرى التي أخذت تتبلور على الساحة العربية. وأهمها علاقة كل مجموعة كما أوضحناها في الشكل، بملكية وسائل الإنتاج والتوزيع وإن كان بصورة تقريبية عامة، ومرتبة كل منها في الإنتاج الاجتماعي، ودوره في التنظيم المجتمعي للعمل، وحصة كل مجموعة من الثروات والدخول الريعية وغيرها، وسبل الحصول عليها، إضافة إلى الاختمار التدريجي للوعي الطبقي المصلحي لدى كل مجموعة بذاتها ولذاتها.
صحيح أن غياب الديمقراطية في العديد من أقطار الوطن العربي، قد كبت وما زال يكبت نمو هذا الوعي. ولكن من جانب آخر نلاحظ وجود التنظيمات المهنية والسياسية والاجتماعية المعبرة عن مصالح الطبقات في المجتمع. وهناك رأي آخر يبالغ في إسباغ مفهوم الطبقة، حتى على المثقفين فيتحدث عن (الطبقة المثقفة)!. في حين أن فئة المثقفين في كل قطر عربي غير متجانسة، ولها مناشئ وانتماءات متعددة لجميع الطبقات والشرائح الطبقية في المجتمع. أي أن لكل طبقة وشريحة مثقفيها المدافعين عن مصالحها وليس شرطاً أن يكون منشؤهم من الطبقة ذاتها.
وعند العودة إلى لينين فإنه يرى أن تعريف الطبقة يتحدد بمعايير أربعة هي:
1- موقع المجموعة الاجتماعية في نظام الإنتاج الاجتماعي المحدد تاريخياً.
2- علاقة هذه المجموعة بوسائل الإنتاج في إطار التعبير القانوني عنها.
3- دورها في التنظيم الاجتماعي للعمل.
4- حجم الدخل وأسلوب الحصول عليه.
ويؤكد لينين أنه لا يمكن تحديد الطبقة تحديـداً كاملاَ بغير اجتماع هذه المعايير الأربعة (1).
وعندما ننتقل من العام على الصعيد العربي القومي، إلى الخاص على الصعيد القطري، نشير هنا إلى مثال يتعلق بحالة جمهورية مصر العربية وهي تحتضن تقريباً ربع سكان الوطن العربي. فمن محاولة رائدة حول تعريف محدودي الدخل في مصر توصلت الباحثة الدكتورة كريمة كريم (2) إلى تعريف محدودي الدخل في مصر على أساس هؤلاء الذين يحصلون على دخل من الوظيفة يساوي أو يقل عن دخل خط الفقر. وبناءً على هذا المعيار، تم التعرف على محدودي الدخل من القوى العاملة باستخدام منهج الفئات الاجتماعية – الاقتصادية.
وتم تعريف الفئات محدودة الدخل وفقاً للباحثة كما يلي: العاطلون عن العمل وأصحاب المعاشات التقاعدية ومتلقي التأمينات الاجتماعية وموظفي القطاع العام (حكومة وشركات قطاع عام) في الدرجات الوظيفية الثانية والدرجات الأدنى، والعمالة الزراعية الأجيرة، والحائزين على أقل من ثلاثة أفدنة، و70 في المئة من العاملين في سوق العمل غير المنظم، و40 في المئة من العاملين في قطاع الأعمال المنظم.
ويتضح من الدراسة، كما تؤكد الباحثة الدكتورة كريمة كريم، أن النقص في البيانات المتاحة كان يمثل عقبة كبيرة أمامها. ولم يكن هناك سبيل لاجتيازها إلا عن طريق وضع العديد من الفروض، خاصة عند محاولة تعريف محدودي الدخل في القطاع الخاص غير الزراعي، الذي يشمل قطاع السوق غير المنظم وقطاع الأعمال المنظم. ورغم ما قد يرد على نتائج هذه الدراسة الجادة من تحفظات نتيجة لبعض الفروض الموضوعة، إلا أننا نشارك الباحثة المجتهدة بأنها تمثل خطوة أولى في طريق كان مجهول المعالم تماماً، ونجحت نسبياً في توضيح عدة أمور هامة بشأنه.
ونطمح أن تتلوها خطوات مماثلة لتوسيع المساهمة نحو تعريف محدودي الدخل في كل قطر عربي، نظراً لأهمية هذا الموضوع كما مهدنا له في هذه المقالة الموجزة.
******************
(1) نقلاً عن مجلة الدراسات الاجتماعية المصرية) – عدد عام ،1986 دار الثقافة الجديدة، القاهرة .1986.).
(2) دكتورة كريمة كريّم – تعريف محدودي الدخل في مصر، مجلة (مصر المعاصرة)، العدد 426 القاهرة / أكتوبر 1991. تقول الباحثة بأن مفهوم محدودي الدخل تعبير مجازي، فأي دخل مهما كبر حجمه، إنما هو في واقع الأمر دخلاً محدوداً، ونحن في هذه المقالة استخدمناه بهذا المعنى النسبي.
3) هموم محدودي الدخل ومشاكلهم صارت من مضامين العمل الأدبي المنحاز لقضايا الإنسان، المستغَل بالذات، وكنموذج منها على سبيل المثال في هذا المجال، تجدر الإشارة إلى الكاتب المبدع وليد الرجيب في مجموعته القصصية الصادرة عن دار الفارابي في بيروت بعنوان: إرادة المعبود في حال أبي جاسم ذي الدخل المحدود.