الطربوش.. فولكلور اندثر
غاب الطربوش الأحمر عن الشارع العربي وأصبح من مخلفات الفولكلور القديم. ونادراً ما نراه على رؤوس الرجال باستثناءات قليلة، فما يزال رجال الدين الإسلامي يستخدمونه حتى الآن. ومعمل الطرابيش الوحيد في لبنان ينتج حتى اليوم من الطرابيش العثمانية ويوزعها في بلاد الشام لكن بشكل محدود.
إنَّ كلمة (طربوش) لم تكن إلاَّ تحريفاً لكلمة (سربوش) أو (سلابوش) الفارسية، ومعناها (غطاء الرأس)، وفي العربية (شربوش). ومن الأتراك انتقل إلى مصر وغيرها من البلدان العربية، ودخل بلاد الشام إبَّان الاستعمار العثماني، وإلى مصر بعد وصول إبراهيم باشا إلى أرض الشام.
اقترن الطربوش كغطاء لرأس الرجل بالوقار وحُسن الهندام، وانتشر اعتماره في العديد من البلدان العربية والإسلامية، ابتداء من القرن التاسع عشر كعلامة على التميز وعلو المكانة الاجتماعية. وأنشأ محمد علي باشا ورشة في كفر الشيخ لتصنيع الطرابيش. وعندما حطَّم الغرب دولة محمد علي باتفاقية 1840 ، كان حريصاً على تفكيك مصانعه بما في ذلك مصنع الطرابيش. واكتسب الطربوش دلالة خاصة (قومية) باعتباره رمزاً في مواجهة قُبَّعة الأوربيين الغزاة.
وانبرى سلامة موسى (1887 – 1958) على صفحات (المجلة الجديدة) يُذكّر المصريين من بقايا تبعية مصر للحاكم التركي، بينما انقضَّ غيره في صحف أخرى يلعنون القبَّعة الغربية ومن يرتديها. وأصبح الطربوش تياراً سياسياً له هيبته في الشارع المصري. وابتكر البعض طربوشاً مختلفاً بألوان العلم المصري حينذاك بزرّ أبيض، فكان لابسه على حد قول الدكتور لويس عوض (1915 – 1990) (يبدو كأنه فحل فجل).
لقد توارثت الأجيال اللباس والأزياء التي رافقت التطور الثقافي والصناعي وتبدَّل المظهر الخارجي للعربي. ففي القرنين التاسع عشر والعشرين، نجد أن الملابس وأدوات الزينة التي كان يرتديها المصريون ما هي إلاَّ عادات متوارثة عن الأجداد. ومن أشهر هذه الملابس (الطربوش) الذي كان بمثابة قُبَّعة للرجال تُصنع عادة من الخيش، قمته مسطَّحة، وليس فيه زوائد للحماية من الشمس ويثبَّت بإحكام على الرأس، وغالباً ما يزوّد الطربوش ب (شرابة) من الحرير تثبَّت في أعلاه.
هناك من يقول مؤكّداً أن أصل الطربوش من المغرب، وأنه عرف هناك كغطاء للرأس منذ قرون طويلة جداً. ومن أقدم الروايات التي وصلت عنه تلك التي رواها المقدسي، ذلك الجغرافي العربي في القرن العاشر الميلادي. فقد روى أن أهل فاس في المغرب يغطّون رؤوسهم بطاقية حمراء. ومن بعد المقدسي بستة قرون جاء حسن الوزان (1494 -1554) المعروف باسم (ليون الأفريقي) في القرن السادس عشر الميلادي، وهو من أهل فاس ومن أصحاب المقامات يغطّون رؤوسهم بطاقية مصنوعة من اللبَّاد الأحمر. وتتباين الروايات حول الموطن الأصلي للطربوش.. البعض يؤكد أنه من النمسا ودخل إلى تركيا فيما بعد.. وهناك من يقول إنه بدأ منذ 300 سنة بالظهور في اليونان وألبانيا، واستقرَّ في تركيا في ظلّ الدولة العثمانية.
وفي عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566)، ومع صدور فرمانات تعميم الطربوش على الرسميين من أبناء السلطة فقد تهيّبه الكثيرون ك (زيّ بروتوكولي إلى أن أصبح زيَّاً شعبياً). ويقال إن الطربوش كانت تستخدمه نساء الألبان واليونانيات. ويروى أن أحد الولاة العثمانيين كان في مجلسه وحوله جوار، فقامت إحداهنَّ وهي ألبانية ترتدي الطربوش بوضعه على رأس مولاها مداعبة، فراقَ له ذلك، وبذلك انتقل الطربوش من النساء إلى الرجال.
ومع تقدم الزمن وتتابع العقود أخذ الطربوش يفقد مقامه العالي تدريجياً، وجاءت أول ضربة أصابته على يد مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938) الذي أصدر أمراً بمنع استعماله في تركيا منذ أن تولى الحكم، ومن ثمَّ أخذ يتراجع في سورية ولبنان وفلسطين.. أما في مصر فقد ظلَّ متربعّاً على الرؤوس حتى قيام ثورة يوليو 1952 ، ولكنه لم يلغَ رسمياً إلاَّ سنة 1958 بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر، لأنه كان بالنسبة له رمزاً للملكية والفساد والإقطاع.. وهكذا سقط الطربوش من صفوف البوليس المصري وضبَّاط الجيش ومن ثمَّ موظفي الدولة، وتبع ذلك عامة الشعب بشكل تطوعي حُبَّاً بعبد الناصر.. وفي سنة 1962 اختفى الطربوش تماماً من الشارع المصري..!