كاتب بالواسطة..!
إذا كانت الشللية تفرض وجودها في بعض مفاصل حياتنا اليومية وتنحدر بها نحو الأسفل فإن الواسطة لا تقل شأناً وضرراً عنها. وقد خبرنا ما سببته الواسطة في الكثير مما يعترضنا بشكل يومي. فالتاجر مثلاً يبيع بلا فاتورة ولا تسعيرة لبضاعته، لأنه يصل عن طريق شخص ما إلى صاحب القرار في مديرية التموين، وسائق السيارة يتجاوز الإشارة الضوئية وحدود السرعة مسبباً الرعب للمارة وللركاب، لأنه على علاقة جيدة بالشرطي الفلاني أو بمفرزة المرور، والمستورد الذي يُدخل إلى البلاد البضاعة السيئة والرديئة، لأنه على علاقة بالضابطة الجمركية أو بمدير المرفأ، والمعينون في المسابقات الخلبية التي تجريها بعض الوزارات، لأن لأصحابها صلة بشخص ما في تلك الوزارات، والمعاقون الذين تم توظيفهم دون أية إعاقة.. و.. وإلخ.
ويطول الشرح لو نظرنا بعين الحقيقة إلى ما جرى ويجري على أكثر من صعيد، فالخوف على المستقبل الذي ينتظرنا نتيجة تلك التجاوزات هو ما يثقل تفكيري وقد يتهمني هنا البعض، بأنني أنظر إلى الجزء الفارغ من الكأس، ولكن طالما أنني لن أتحدث عن كل ما ذكرت فلا أرى نفسي مضطراً للدفاع عن وجهة نظري.
الشيء الذي لم أكن أستوعبه هو وجود الواسطة في الأدب، أي بمعنى آخر وجود كاتب بالواسطة، لا تستغربوا.. نعم كاتب بالواسطة. وسأخبركم بما أسرّه لي أحدهم قبل شهر تقريباً:
لقد أسرّ لي صديقي، وهو يبتسم بشكل ساخر، عندما التقيته مصادفة في السوق وسألته عن نشاط أحد المستكتبين في جريدة محلية، والذي أعرفه جيداً بعد أن طال غيابه عن تلك الجريدة، بأن هذا الذي لا يعجبك (قالها لي وهو يزم شفتيه ويقطب حاجبيه) ستحبل باسمه الصفحة الثقافية في تلك الجريدة. ولن أذكر اسم الجريدة حفاظاً على سمعتها وسمعة من يعمل بها وحفاظاً على فرصتي النادرة للنشر فيها.
استغربت ذلك ولاسيما أنني أعرف هذا المستكتب الذي لا يقرأ في السنة كتاباً واحداً ولا حتى فصلاً واحداً من كتاب. عندما سألت صديقي عن السبب أسرّ لي، بأن هذا العبقري المستكتب قد وصل بشكل ما إلى رئيس تحرير تلك الجريدة، وقد وعده المسؤول بأن يتصل مع محرر الصفحة الثقافية ليكون له في الأسبوع الواحد أكثر من مادة.
لم أصدق هذا الشخص إلاّ عندما تابعت الصفحة الثقافية في تلك الصحيفة المحلية وقرأت عدداً من مواضيع الإنشاء، كما كانوا يسمونها في المدارس الابتدائية على أيامنا، تارة يكتب عن صديقه الذي يغني في الحواكير، وتارة عن صديقه الذي يرسم على الجدران، وتارة يلتقي مع شاعر لم يسمع به إلاّ هو وعائلة الشاعر، وطوراً يحدثنا عن يومياته مع زوجته، وأحياناً يسرد لنا ما يجري في دكان أبو يوسف في قريته من لغو وأحاديث تافهة، كتلك المسلسلات المدبلجة التي اتتنا في غفلة من يقظتنا.
الشيء الأنكى من كل هذا هو ازدراء هذا المستكتب لكل ماينشر في الصفحات الثقافية الأخرى، فهو لا يملك من الوقت إلاّ ما يكفيه لقراءة ما جادت به قريحته وما أبدعته مخيلته، إذ تراه يبحث في الصحف المحلية عن مادة له فيقوم باقتناء الصحيفة أما إن لم يكن له مادة فهو غير ملزم بدفع خمس عشرة ليرة ثمناً لجريدة ليس له مقال فيها!
إذا كنّا قد عانينا على مدار سنوات عديدة من الفساد في العديد من مفاصل المجتمع وما زلنا نعاني ودفعنا وندفع ثمناً باهظاً بسبب ذلك فكل ما أتمناه أن لا يصل هذا الفساد إلى الأدب وإلى الثقافة التي ترتقي الشعوب برقيها وتكبر المجتمعات بأصالتها.. وقد يكون للحديث تتمة!!