مئوية الأديب والمفكر رئيف خوري (1913-2013)
احتفلت الأوساط الوطنية والتقدمية في لبنان بمناسبة مئوية الأديب والمفكر رئيف خوري، في الثاني من تشرين الثاني الجاري 2013 في قصر الأونيسكو بيروت. وقد شارك في الاحتفال نخبة من الأدباء والمفكرين والباحثين.
رائد من رواد النهضة الفكرية والإنسانية
لا يمكن الكتابة عن جانب أو جوانب من إبداع رئيف خوري الكثيرة والمتنوعة، المضيئة وبالغة الثراء في مقالة أو بحث واحد. فالإحاطة الشاملة بتراث رئيف خوري المفكر والأديب والشاعر، والمناضل الثوري، يحتاج إلى أبحاث وأبحاث مستفيضة.
سأتناول بتواضع شديد بعض جوانب سيرة هذا المفكر الشيوعي المبدع ونشاطه وأفكاره بمناسبة مئة عام على ولادته.
المحطات البارزة في حياة رئيف خوري
أبصر رئيف خوري النور عام 1912 في لبنان بلدة نابيْه المتن الشمالي، نشأ وترعرع بين تلالها ووديانها، متسلقاً صخورها الناتئة المطلة على المرتفع أو المنظر الجميل أو الموقع الذي يرسل النور، فالاسم مشتق من كلمة نابو الآشوري البابلي، رب الحكمة والعقل، أو رمز المعرفة والارتقاء.
مارس رئيف، كسواه من فتيان القرية، الأعمال الزراعية على أنواعها. إلا أن رئيفاً نَعِم بما لم ينعم به سواه من أبناء بلدته، فقد أتيح لوالده نجم نجيب خوري سبيل التعلم خارج نابَيْه، وهذا ما دفعه إلى بذل أقصى الجهود لتعليم أبنائه.
كانت نابية محرومة من المدارس، فأنشأ أبو رئيف مدرسة ابتدائية لأولاد بلدته، في غرفة متواضعة تابعة لوقف كنيسة الروم الأرثوذكس خلال فصل الشتاء، وتحت شجرة البلوط الملاصقة للكنيسة صيفاً لمتابعة التلاميذ دروس المرحلة الابتدائية، أطلق عليها (مدرسة شجرة البلوط) في أواخر العشرينيات.
وكان أبو رئيف يساعد التلاميذ المتفوقين في دراستهم الابتدائية بإرسالهم إلى مدرسة برمّانا العالية لإكمال دراستهم، مما ساعد على تأهيل عدد كبير من المثقفين من شباب القرية.
وإلى جانب التعليم كان أبو رئيف يعمل في الزراعة، لأن الأرض تحتضن بخيراتها عائلات البلدة.
كان نجم معلماً مخلصاً في عطائه، وطنياً متقدماً بأفكاره، ضليعاً باللغة العربية وبأعلام التراث العربي. وكان التلاميذ مضطرين، بسبب أوضاعهم، إلى الجمع بين متطلبات العمل الدراسي والمشاركة في الأعمال الزراعية مع الأهل لكسب عيشهم أو للمساعدة في إكمال دراستهم.
فنابيه البلدة القريبة من العاصمة كانت بعيدة عن مؤسسات الدولة واهتمامها، وتعتمد كلياً على سواعد أبنائها.
وكانت نابيه بحكم موقعها الجغرافي ملتصقة إدارياً وسياسياً وثقافياً ب (أنطلياس). البلدة القريبة من بيروت والتي كانت من أهم مراكز الانتفاضات الثورية الفلاحية منذ عام 1831. وقد وُجد فيها الحزب الشيوعي منذ عام 1931 وكانت علاقات والد رئيف وثيقة بعدد من الشباب الوطنيين الثوريين في أجواء الحزب الشيوعي اللبناني. ولا شك أن رئيفاً لم يكن بعيداً عن هذه العلاقة، فعلاقة رئيف بوالده رغم صغر سنه لم تكن علاقة أبوّة فحسب، بل اتسعت إلى علاقات فكرية وسياسية.
بعد أن أنهى رئيف دراسته الابتدائية في نابيه، التحق بمدرسة برمّانا العالية الإنكليزية،. وكان يقطع الطرقات الوعرة مشياً على الأقدام متجهاً نحو برمانا وهي من بلدات المتن الشمالي للدراسة والحصول على (شهادة الهاي سكول) الثانوية الإنكليزية.
في هذه المدرسة بدأ يكتب الشعر، ويعالج بعض الموضوعات بأسلوب ذكي ورشيق.
أنهى رئيف دراسته الثانوية والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت.
وكان من الطبيعي، بعد انتقاله من قريته الجبلية الهادئة إلى مناخ المدينة المدنية وصعوبات الفضاء الجديد بكل ما فيه من تنوع وصخب وتطور وعادات وسياسات، إضافة إلى فقدان والدته المفاجئ، في العام نفسه (1928) أن يهتز دون أن يقع. وقد لعب والده دوراً هاماً في مساعدته، ولده فتحول رئيف صيف ذاك العام من نفس تعاني الانكسار والحيرة، إلى روح عصامية تتذوق التفوق والانتصار.
أثناء دراسته الجامعية، كتب العديد من المقالات وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، في جريدة (البيرق) وغيرها، وكان ذلك من إنتاجه الأدبي الباكر المتميز.
تخرج في الجامعة الأمريكية عام 1932 بدرجة بكالوريوس علوم في الأدب العربي وتاريخ الآداب الشرقية، وحاول إعداد رسالة عن الجاحظ لكنه لم يتمكن من إتمامها وبقيت مخطوطة.
الاتجاهات الفكرية والسياسية لرئيف خوري
واجه رئيف خوري في حينه ثلاثة تيارات: القومي العربي، والسوري القومي الاجتماعي المجاهر بالعلمانية، والاشتراكي العلمي، ولئن كثرت التأويلات حول ترجمات رئيف في هذا المجال وطبيعة التزامه وتمايز رؤيته ومواقفه، فالشائع في معظم المراجع أن أستاذه الإنكليزي في الجامعة الأمريكية روجر سلطو )UATLOS( وهو متضلع في التاريخ، هداه إلى الأفكار الاشتراكية العلمية، وسهّل له قراءة الكثير عن الماركسية والماركسيين.
إضافة إلى تأثر رئيف بأفكار شباب أنطلياس الشيوعيين وحركتهم، وبعضهم من مؤسسي منظمة الحزب الشيوعي في المنطقة.
وبعد أن اتجه رئيف نهائياً نحو الفكر الاشتراكي، أصبح ممثلاً لتيار ثقافي مرتبط إلى حد كبير بالحزب الشيوعي اللبناني، ولكنه بقي منفتحاً على الآخرين رغم تباين الرأي والاتجاه، صديقاً للأدباء والشعراء والمفكرين على اختلاف اتجاهاتهم وتنوعها. لكن هذا الانفتاح الفكري والإنساني لا يعني على الإطلاق تردداً أو تهاوناً في الالتزام، بل على العكس يدفع نحو ثقة لا تُحدّ بالنفس، وجرأة في القول، وتشدُّد في الذود عن الخط الفكري الذي اختاره.
بعد تخرجه مباشرة، بدأ رئيف يمارس التعليم منذ ذلك العام، إضافة إلى الصحافة، فكتب في مجلة (الرياض)، ثم سافر إلى مدينة طرطوس في سورية وقام بمهمة تدريس الأدب العربي لطلاب البكالوريا في (الكلية الشرقية) عام 1933 وبقي فيها سنتين. ثم عاد ثانية إلى طرطوس للتدريس في الكلية نفسها، وأثناء وجوده هناك أصدر أول كتاب له (امرؤ القيس، نقد وتحليل) الصادر عام 1934 رحل بعد ذلكإلى القدس عام 1935 حيث تولى أيضاً تدريس الأدب العربي وتاريخه. وكانت المدن الفلسطينية في حالة غليان شعبي كبير ضد سلطات الانتداب الإنكليزي، فالتقى هناك نخبة من القادة الشيوعيين وبعض أعلام الثقافة العربية التقدمية. رجاء حوراني ود. خليل بديري، لصوغ المطالب العربية ومنها: وقف الهجرة اليهودية، وتشكيل حكومة وطنية ديمقراطية، ودعم الإضراب، وعدم بيع الأراضي، والتشبث بحق الشعب الفلسطيني، والنضال في سبيل الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية.
وكان ذلك يشمل برنامجاً للثورة الوطنية التحررية الفلسطينية.
وقد شكل رئيف خوري وأصدقاؤه تياراً واسعاً في الوسط الثقافي والطلابي الفلسطيني ضد الاستعمار الإنكليزي ومخالب الصهيونية.
وهناك في المدن الفلسطينية نشر أفكاره واطلع بعمق أكثر على أفكار ماركس وأنجلز ولينين.
فلسطين
أصدر عام 1936 كتاب (جهاد فلسطين) باسم مستعار (الفتى العربي)، ومسرحيته الشعرية (ثورة بيدبا) التي أحدثت ضجة كبيرة، وفيها دعوة إلى ثورة وطنية تحررية.
وقد منعتها السلطة الإنكليزية مما زاد من انتشارها سراً. وفي العام نفسه وضع كتابه (حبّ الرمان) وقصص عربية أخرى.
كان رئيف خوري في هذه الأثناء يتنقل في المدن والقرى الفلسطينية، يخطب في الجماهير محرّضاً على الانتفاضة ضد الإنكليز والصهيونية والمتعاونين معهم.
ومن أجل رفع وعي الفئات الكادحة، درّس دون مقابل مادي مع رجاء حوراني في مقر الشبيبة المسيحية في القدس، الحمالين، والفقراء، وأولاد العمال، وأطفال الشوارع، الذين لا يستطيعون دخول المدارس بسبب الفقر.
سافر إلى ضواحي نيويورك لحضور مؤتمر الشباب العالمي الثاني ممثلاً للشباب العربي في المؤتمر.
ونتيجة للنشاط الذي قام به في المؤتمر وهجومه العنيف على سياسة الإنكليز والصهاينة، مُنع من العودة إلى فلسطين، فاتجه نحو وطنه لبنان دون أن يحيد شعرة عن مواقفه الإنسانية. وفي لبنان كثيراً ما كان يفصل من الكليات التي كان يدرّس فيها: الكلية العلمانية الفرنسية (اللاييك) والإخوة المريميين) والكلية البطريركية وغيرها، بسب مواقفه السياسية.
كان أحد مؤسسي عصبة مكافحة النازية والفاشية، إلى جانب عمر فاخوري، يوسف إبراهيم يزبك. أنطون تابت وغيرهم التي تحولت بعد ذلك إلى جمعية الصداقة اللبنانية السوفييتية.
أصدر بالتعاون مع الحزب الشيوعي اللبناني مجلة (الطليعة)، فكانت عملياً لسان حال عصبة مكافحة النازية والفاشية في لبنان وسورية، وذلك قبل صدور مجلة (الطريق).
إلا أن سلطات فيشي الفرنسية منعتها من الصدور، وفي العام نفسه التقى رئيف خوري في إدارة مجلة (المكشوف) الأدبية عمر فاخوري، فولدت وترسخت صداقة إنسانية وكفاحية ستظهر معانيها لاحقاً في نضال مشترك في أجواء الحزب الشيوعي في مجلة (الطريق) وعصبة مكافحة النازية والفاشية، عمل رئيف خوري إلى جانب الشيخ عبد الله العلايلي في دار المعجم العلمي العربي: فأعطى من ذاته بسخاء، وأغدق على المعجم إغداقاً يصعب تحديد حجمه.
كان أحد أهم أركان مجلة (الطريق) منذ صدور أول عدد لها في 20 ك1 عام 1941 ومعه أنطون تابت وعمر فاخوري ويوسف يزبك وكامل عياد، بمشاركة عدد من الكتاب العرب التقدميين، وأصبحت (الطريق) الميدان الأساسي لكتاباته الأدبية والسياسية والتراثية التي أصبحت ميدان نشاطه الثقافي العام.
في عام 1943 أصدر كتابه الهام (الفكر العربي الحديث) وفيه أثر الثورة الفرنسية في توجهه السياسي والاجتماعي، قدم فيه مساهمات جدية على مستوى من الفهم النظري لحركة التاريخ في تجديد السمات الرئيسة لمرحلة معينة من تطوره.
في أواخر عام 1943 عُقد في بيروت المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي في سورية ولبنان.
في هذا المؤتمر ألقى رئيف خوري تحية إلى المؤتمرين باسم أصدقاء الحزب (عمر فاخوري رئيف خوري، يوسف إبراهيم يزبك). وقد عبر هؤلاء في التحية عن رؤيتهم للحزب الشيوعي وشعاراته الوطنية العربية والأممية، ونضاله من أجل الحرية والتقدم الاجتماعي، وختم رئيف التحية (بالشكر والفلاح للحزب الشيوعي الذي نعدّه ضمانة وطنية قوية للاستقلال والحرية والديمقراطية).
فضح النازية والفاشية
أثناء الحرب العالمية الثانية تميز نشاط رئيف خوري بكشف جرائم وأخطاء النازية والفاشية، وتبيان ميزات النظام الاشتراكي والانتصارات التي حققها الجيش الأحمر والشعب السوفييتي ضد الهتلرية.
زار الاتحاد السوفييتي والتقى بعدد من كبار الأدباء السوفييت، وكان من نتاج هذه المرحلة صدور كتاب بعنوان (الثورة الروسية – قصة مولد وحضارة).
ومن يتابع حياة رئيف خوري ونشاطه خلال نصف قرن يجد أنه شديد الالتصاق بالقضايا المحقة، والتي عصفت بالعالم قاطبة ضد الظلم والاستبداد بجميع أشكاله، إلى محاربة الحركات العنصرية وتبنيه قضايا المغلوبين والفقراء، كان شديد الالتزام بالواقعية الماركسية، وبعدم اقتصار الأديب على تفسير العالم، بل العمل على تغييره، مؤمناً بأن لا مستقبل للحرية إلا في المجتمع الاشتراكي الذي يؤمّن للفرد حياة لائقة كريمة.
إن غزارة إنتاجه وتعدد منابعه الثقافية واتساع حركته السياسية والأدبية، وكذلك آثاره المخطوطة والمبددة في صحف ومجلات لبنان وسورية وفلسطين، ساعد كثيراً على رفع الوعي لدى جماهير واسعة.
أحب الناس وكان يرى أنهم يشكلون في حياتهم اليومية وعلاقتهم البذور التي يتفتح منها الأدب الرفيع.
كان يتردد دائماً إلى الناس البسطاء، يعيش همومهم وتطلعاتهم ليعبر عنها في قصة يكتبها أو محاضرة يلقيها أو حديث يسوقه للشعب، ويتحدر منه كل مفهوم للحياة والإنسان وما بينهما من علاقات.
عمل من أجل الإصلاح والارتقاء والنهوض من وُحول التخلف إلى فضاء نوراني، ولفت نظر العالم إلى خطر سياسات التفرقة العنصرية والاحتلال وقهر الشعوب.
حقوق الإنسان
ناضل بعناد ومثابرة لا مثيل لهما في سبيل تأكيد حقوق الإنسان وبناء مجتمع ديمقراطي اشتراكي يحقق فيه المواطنون العدالة الاجتماعية والحريات المدنية والسياسية، خاصة حرية الرأي والمعتقد بنظام اقتصادي واجتماعي يحقق العيش الكريم وفرص العمل والعلم للمواطنين، مدافعاً عن استقلال لبنان وحقه في استكمال سيادته على أرضه وتدعيم تحرره السياسي ووحدته الوطنية بعيداً عن كل عوامل الانقسام الطائفي. وكان مدافعاً ومسانداً للشعوب العربية في نضالها من أجل التحرر. كذلك كان اهتمامه شديداً بالقضايا التي تهم الإنسانية، واضعاً كل ثقله في الدعوة للاشتراكية العلمية وفي الدفاع عن الاتحاد السوفييتي، متصدياً بقوة للنازية والفاشية، وإلى جانبه عمر فاخوري ود. جورج حنا.
وأكثر ما أثار اهتمام رئيف خوري كان حرية الفكر التي وضعها فوق كل اعتبار، وهي إشكالية فكرنا الراهن ما تزال تشغلنا وتقلقنا كما شغلته. والتزم قضايا الإنسان وحمّل نفسه المسؤولية تجاهه، من أجل التحرر الشامل الاجتماعي والسياسي لهذا الإنسان.
لقد دفع رئيف ثمن خياره الفكري والسياسي أعني ماركسيته، فالستالينية لم تتحمل ما تميز به من استقلال وحرية. وهذا أيضاً لم يتغير كثيراً اليوم مع نمو التيارات التوتاليتارية التي ترفض النقد وتقيد حرية الفكر باسم الشعارات والقضايا الكبرى.
في أواخر الأربعينيات حتى أواسط الخمسينيات كتبت صفحات ظالمة بحق رئيف خوري، صفحات لم تكن تعبر حتى في وقتها ذاك، إلا عن ضيق أفق في الثقافة وفي السياسة، أصاب الحركة التقدمية في تلك الفترة، وأدى إلى انعزالها عن الحركة الشعبية، وإلى إبعاد العديد من المثقفين الديمقراطيين عنها، ومن هؤلاء رئيف خوري بما يحمله من تراث فكري كفاحي هو تراث الحركة التقدمية الذي لا يصح إلغاؤه بقرار مزاجي يطلقه هذا الفرد أو ذاك، مهما كانت الصفة التي يشغلها هذا الفرد. وهذا الخطأ لم يرتكب بحق رئيف خوري فقط بل بحق الثقافة إجمالاً، وبحق التفكير العلمي والديمقراطية وبحق الحزب الشيوعي نفسه أولاً وأخيراً.
ولم يقابل رئيف التهجمات بأخرى مماثلة، بل أمعن السير ضمن الخط التقدمي رافعاً الحرية والتقدم والاشتراكية وضرورة أن يتمتع المفكر والأديب باستقلال نسبي عن جهاز الدولة حتى ولو كانت اشتراكية، ولم يسمح رئيف للآخرين أن يستغلوا فكره ضد الحركة التقدمية واستمر في كل نشاطاته الأدبية والفكرية.
علاقته بالحزب الشيوعي اللبناني السوري
ارتبط رئيف خوري سياسياً واجتماعياً بالفكر الاشتراكي وبالحزب الشيوعي اللبناني السوري دون أن يكون عضواً في الحزب، ربما كان يرى أن هذه المسافة الشفافة تعطيه الشعور بالاستقلالية الشخصية، دون أي ابتعاد عن الحقل النضالي من أجل التحرر الوطني والاشتراكية. وكان يرى أنه بهذا يظل اشتراكياً وشيوعياً ومستقل الشخصية في الوقت نفسه. إنه مفكر نقدي وانتقادي مرتبط نضالياً بالمسيرة الكفاحية للحزب الشيوعي اللبناني السوري.
في ذلك الزمان (زمن تقديس الشخصية) كان الفكر التقدمي الانتقادي غير مستحب لدى قيادات في الحزب، بل كان (الاستسلام الإيماني)،كما يقول محمد دكروب، للموقف العام الرسمي والمتعارف عليه في الحركة الشيوعية هو الموقف المطلوب والمقبول.
كان رئيف يعتقد أن معارضة قرار الأمم المتحدة وموافقة الاتحاد السوفييتي على قرار تقسيم فلسطين من شأنه أن يؤثر، في أي حال، في الصداقة المتينة والدائمة مع الاتحاد السوفييتي، (علماً أن الحزب الشيوعي اللبناني السوري ظل، حتى اليوم الذي سبق قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، رافضاً له داعياً إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة). (الطريق) – شباط 1989.
وكان قد نشر عدداً من المقالات جمعت بعد رحيله بعنوان (الأدب المسؤول) تضمنت إعادة النظر بعلاقة الأديب بالحزب.
وفي أيلول من عام 1956 عقد في مصيف بلودان السوري المؤتمر الثاني للأدباء العرب، وكان العالم العربي في نهوض وطني كفاحي عارم. في هذا المؤتمر شارك الأديبان الكبيران حسين مروة ومحمد دكروب، كما شارك رئيف خوري من موقعه الديمقراطي التقدمي الراسخ. وعاد اسم رئيف إلى صحافة الحزب بعد انقطاع طويل لم يكن طبيعياً، وعادت كتابات رئيف خوري في (الثقافة الوطنية) وفي مجلة (الطريق) التي أعطاها سنوات من عمره، وكانت غنية متنوعة كالعادة ابتداءً من العدد التاسع والعاشر عام ،1959 ولقد لعب الرفيقان حسين مروة ومحمد دكروب دوراً هاماً في هذا الموضوع.
وفي مقالة نشرت في (الطريق) لمحمد دكروب (شباط 1982) عن هذا الموضوع. يقول: (في هذا المؤتمر وجدنا – حسين مروة وأنا – أن إعادة الصلة برئيف خوري هي من الأمور الطبيعية والضرورية، بل وشعرنا خلال العمل معه أن قطع الصلة، أصلاً، مع رئيف خوري لم يكن أبداً أمراً طبيعياً. ورأينا خلال عملنا المشترك هذا مع رئيف أن وجهه كله أضاء بفرحة مدهشة، هي مزيج من الاعتزاز والاعزاز واللوم والعتاب العميق، وكان هذا الحدث بداية ملموسة لإعادة علاقة هي أصلاً من طبائع الأمور بين رئيف خوري والشيوعيين. ويبدو أن قيادة الحزب كانت في جو إعادة النظر ب (قضية رئيف خوري)، فوافقت رأساً على مبادرتنا.
أحب رئيف لبنان وطناً وشعباً، وأراده موئلاً للديمقراطية والحرية والتسامح والاشتراكية.
ناضل من أجل قيام دستور يضمن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ويجعل الشعب مصدر السلطات. ورغم إيمانه بسياسة الحياد إلا أنه ربط مصير لبنان بمصير بيئته العربية، وكان لبنان القوي الديمقراطي حلمه الدائم.
وفي أوائل السبعينيات، وحين بدأت بيروت تثقل كاهله بصخبها ومتطلباتها، انتقل إلى نابَيْه ليجعل من قريته مقراً نهائياً له. فقد رافقت رئيف قريته في مختلف مراحل حياته، فهي بُعدٌ هام من أبعاد شخصيته.
لم تكن روابط رئيف الحميمة مع قريته ضرباً من الانكفاء في إطار ريفي ضيق، فقد كان دائماً تواقاً إلى مجالات أرحب وأبعد، فانتماءاته وإن تجذرت في تربة وطنه، تعدت الحدود والحواجز المصطنعة.
رئيف خوري لبناني الانتماء تشده إلى الوطن الصغير وشائج هي جزء من حياته اليومية وعطائه الفكري. ولكن هذا لا يعني تنكراً للمحيط والتراث.
كان عربياً في تطلعاته، والانتماء العربي لا يتنافى مع الانتماء اللبناني، فهما يؤلفان وحدة متماسكة. وعروبة رئيف عبر عنها من خلال مؤلفه الثمين (الفكر العربي الحديث) لبناء مجتمعات متطورة متحررة من أثقال الماضي من الخرافات والتقاليد البائدة والتصورات الشائعة، وهي ترتكز على قواعد ديمقراطية وليبرالية، وتسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية.
رئيف خوري كان علمانياً قلباً وقالباً، وكان دائماً يؤكد أن العلمنة وحدها تسمح بنهوض العالم العربي من كبوته، وتسهم في دفعه إلى مصاف الأمم المتقدمة. فهو يعبّر بجرأة عما يجيش في صدره، ويعتبر ذلك شرطاً لخروج البلدان العربية من دهاليز القرون الوسطى ومن وطأة الاستبداد الشرقي.
واستمر في كل نشاطاته الأدبية والفكرية إلى أن داهمه المرض المفاجئ.
هذا الإنسان الذي فكر وأبدع وأنتج وأعطى الثقافة العربية صفحات من أروع صفحات الدفاع المجيد عن حق الإنسان في الثقافة والعيش الحر الكريم، بقي هاجسه البحث عن ديمقراطية أكثر إنسانية.
وفي الثاني من تشرين الثاني عام 1967 رحل رئيف خوري تاركاً ثروة ثقافية ومقالات لا تحصى.
إن المبادئ التي دافع عنها تبقى رافداً أساسياً من روافد الفكر الإنساني الذي يجمع بين الخبز والحرية.
وإن رئيف خوري وأمثاله يستمرون في ضمير الشعب والوطن.
الهوامش
– مجلة الطريق: (أعلام الطريق) – شباط 1982.
– رئيف خوري: الأديب الحي والمفكر الحر – مئة عام على ولادته 2013.
– مجلة (الثقافة الوطنية) – 1959.
– كتاب (الأدب المسؤول) لرئيف خوري. (علاقة الأديب الحزب).