الذين أكلوا كل التفاح
كما هو معروف فإن آدم قد اضطر تحت إلحاح ونقّ المدام حواء إلى أكل التفاحة المحرمة، بل هو في الحقيقة لم يتمكن من أكلها كلها إذ ما إن قضم أول قضمة حتى طرد من الجنة، أما الذي حصل بعد ذلك، فهو أن بنات حواء قد أدركن قوة النق وأهميته في التعامل مع أبناء آدم، واقتنعن أن لا قوة تستطيع الوقوف أمام إرادة امرأة (نقاقة)، أما أبناء آدم فقد حصلوا على المعرفة مقابل خسارتهم الجنة، ولكن كما يحصل دائماً فالبعض اكتفى بقضمة مفضلاً أن ينعم ببعض الجهل، وهؤلاء تحدثنا عنهم سابقاً، أما البعض الآخر فقد التهم شجرة التفاح كلها، ومن يومها صاروا يعرفون كل شيء، أو هكذا خيل لهم. هل قابلتم هذا النوع من البشر؟ إنهم ليسوا من طبقة العلماء أو المخترعين أو العباقرة، ولكن قد يكون أحدهم جارك في البناية، أو سائق السرفيس الذي تركبه، أو زميلك في العمل… وهذا الصنف يتميز بأنه يستطيع أن يثبت لك في كل لحظة أنه يفهم كل شيء في أي موضوع يطرح، بل يعرف أيضاً كل الناس الذين يخطرون ببالك والذين لا يخطرون أيضاً، جرب مثلاً أن تتحدث معه بالسياسة، فتراه يطلعك على أدق ما جرى من أحاديث خاصة بين أوباما وبوتين، أما لو مر كلب أمامكم، فسيبدأ بإلقاء محاضرة عن أصناف الكلاب وعاداتها وآخر تجاربه معها! ولكن الحق يقال، إن بعضهم أكثر تواضعاً من هذه الفئة ذات المعرفة الشمولية، إذ أنه مختص بفرع محدد من المعارف ولكنه يبدع فيه إلى أقصى حد، فقد تصادف مثلاً واحداً من المختصين بأخبار المسؤولين ونجوم المجتمع والأثرياء عامة، فإذا ما صدف أن ظهر مسؤول ما على شاشة التلفزيون، فلا بد أن يقول لك أنه قابله في مناسبة ما، أو أنه كان زميله في المدرسة، بل في نفس المقعد، وأنه كان طالباً كسولاً، وما كان لينجح في الدراسة لولا غشه في الامتحان، ثم يسرد لك أدق أسراره العائلية والأكلة التي يفضلها، وحتى نمرة حذائه! والبعض يوحي لك أنه من سلالة السندباد، وأنه دار الكرة الأرضية مرتين قبل أن يصادفك على كأس المتة عند أحد أصدقائك، لذا لا تستغرب حين يسألك عن أصلك وفصلك، ثم يخبرك أنه يعرف نصف أهل ضيعتك، وإذا ما حدّثته عن قريب لك في (نيوزيلندا) ستفاجأ بأنه يعرفه بطريقة ما، فإما أنهما خدما العسكرية معاً، أو كانا في الفريق الرياضي نفسه، مع علمك أن هذا القريب لم يخدم في الجيش ولا كان رياضياً، ولكن لن تستطيع أن تقول له ذلك لسبب بسيط هو أنه لن يترك لك فرصة لمقاطعته، لأن قوة التدفق الكلامي عند هؤلاء تفوق قوة شلالات (نياغارا)، ولا تستطيع أن تنجو من دفقات معارفه حتى لو طنشت وتظاهرت أنك تستمع للراديو مثلاً، فهو قادر أن يقاطع استماعك لأغنية فيروز مثلاً بأن يؤكد لك أنه يعرف (حنا السكران) و(ياما قضينا الليالي نشرب معاً)، ولا تستغرب أن يقول لك أثناء الأغنية الثانية أنه في طفولته كان يلعب مع (ريما)…
وأكثر هؤلاء إزعاجاً هم أولئك الذين يدعون معرفة الشخصيات العامة، وقد صادفت مرة واحداً من هؤلاء في مناسبة رسمية عامة، فاقترب مني ليسألني: أي واحد من هؤلاء هو المدير العام الجديد للشركة الفلانية؟ فأرشدته إليه، وإذا به يجري نحو الشخص المطلوب قفزاً، ويقوم بمعانقته بحرارة مهنئاً إياه على المنصب الجديد،الأشخاص الذين حول المدير أفسحوا له المجال لظنهم أنه صديق مقرب إليه، بل أعتقد أن المدير نفسه قد اقتنع بأن هذا الشخص صديق عرفه في مرحلة ما من حياته، أما الطريف فهو أن الشخص المدعي رآني بعد عدة أيام، وقال لي بثقة: إذا أردت شيئاً من أبو زياد (هو يقصد المدير العام) فلا تقلقي، لأنه صديقي…
ولسوء حظي صادفت واحداً من نمرة الفهمانين في أول مرة أسافر فيها بالطائرة، بدل أن أستمتع بهذه التجربة، تبرع الأخ بمهمة تثقيفي وأخذ من أول دقيقة يسأل: هل تعرفين الارتفاع الذي تطير به الطيارة الآن، وهل تعرفين درجة حرارة الجو الخارجي والضغط الجوي؟ راح يشرح لي هذه الأمور، ثم أنبأني دون سؤال بنوع الطعام الذي سيقدم في الطائرة، ولفت نظري طبعاً إلى نوعية الطائرة مشبهاً إياها ب(الهوب هوب) إذا ما قارناها بالطائرات التي ركبها، ثم سألني: وهل تعرفين كيف تتصرفين لو حدثت مشكلة في الطائرة؟ عندها فقط فتحت فمي وأجبته: الحقيقة لا أعرف إلا شيئاً واحداً عن الطيارات، وهو أن هناك حكمة قوية من وراء جعل النوافذ فيها غير قابلة للفتح، وإلا لرأيت البعض يهوي منها الآن دون مظلة….